بسم الله الرحمن الرحيم
الدعوة القوية المؤثرة إنما تكون بقوة فكرتها وصلابة رجالها
الحمد لله الذي هدانا بفضله لحمل دعوته ،واجتبانا من بين العباد لهداية خلقه ونسأله الثبات على أمره حتى ننعم بنصره و لقاء وجهه أما بعد :
أيها الإخوة الكرام:
إنه مما لا شك فيه أن الفكرة القوية التي تحملها جماعة من الناس، من شأنها أن تؤثر في الأفكار الأخرى ولو كانت تلك الأفكار عريقة في المجتمعات البشرية . ولكن تأثيرها هذا لا بد أن يلاقي من الصعاب في أول أمره ما يعوقه عن التمكن والتغلغل في عقول الناس ونفوسهم. ذلك أن الناس من طبيعتهم أنهم يألفون القديم ويتمسكون به كونه من إرث الآباء والأجداد. ولكن هذا التمسك لا يدوم كونه فكرا باطلاً، فصاحبه بين خيارين:
إما أن يتنازل عن هذا الإرث الباطل ويسير في ركب الحق،وإما أن يموت دفاعا عن باطله الذي تمسك به ليندثر باطله معه ،وذلك مثل ما حصل مع زعيم اليهود ـ حيي بن أخطب ـ الذي جاء وعرف صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم الموجودة عنده في التوراة. فسأله أخوه ابو ياسر كما تروي صفية بنت حيي زوجة رسول الله قائلا: أهو هو؟ قال: نعم، والله! قال عمي: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم. قال: فما في نفسك منه؟ فأجاب: عداوته والله! ما بقي ) وفعلا لما غدر اليهود برسول الله صلى الله عليه وسلم ،وحكم عليهم بالإعدام جيء بعدو الله حيي بن أخطب كما روى بن هشام : وأُتي بحيي بن أخطب عدو الله وعليه حلة له فقَّاحية - قال ابن هشام : فقاحية : ضرب من الوشي - قد شقها عليهمن كل ناحية قدر أنملة أنملة لئلا يُسلبها ، مجموعةً يداه إلى عنقه بحبل .فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : أما والله ما لمتنفسي في عداوتك ، ولكنه من يخذل الله يخذل ، ثم أقبل على الناس ، فقال : أيها الناس ، إنه لا بأس بأمر الله ، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل ، ثمجلس فضربت عنقه.
ولقد أخبرنا القرآن الكريم عن أمثال هؤلاء المتمسكين بإرث آباءهم ،فقال تعالى في سورة الزخرف. الآية: 22 { بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون، وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } .
ولقد كانت هكذا حال الأنبياء مع أقوامهم ،يخاطبون أقوامهم بأفكارهم التي هي وحي من الله، فيلقون الصد والإعراض في بادئ أمرهم ،ثم ما يلبث في كثير من الأحيان أن يزول هذا الصد والإعراض لتتغلب الفكرة التي يحملها الأنبياء على الأفكار الباطلة السائدة في تلك المجتمعات . فالفكرة إذاً عندما تكون صحيحة وقوية فإنها تدحض ما سواها من الأفكار، لأنها هي الفكرة الصحيحة .فهي من وحي الله خالق الكون والإنسان والحياة ،اللطيف الخبير بعباده . هذا عندما يكون من يحمل هذه الفكرة الأنبياء المؤيدون بالوحي من السماء.
أما اليوم وقد انقطع الوحي من السماء وورثنا هذه التركة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،باجتهاد شرعي صحيح، مستند إلى الأدلة الشرعية الراجحة، فإننا في حزب التحرير قد تبنينا طريقة معينة لاستئناف الحياة الإسلامية على أساسها، هي طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وتبنينا من الأفكار والأحكام والآراء ما يلزمنا للسير في هذه الطريق ،مستندين في كل ذلك إلى الأدلة الصحيحة الراجحة، فلا بد أن نعمل على بقاء هذه الفكرة قوية صافية حتى تؤثر فيما سواها من الأفكار لتدحضها وتسود مكانها .
وحتى نبقي على هذه الفكرة قوية، فلا بد من الحرص الشديد عليها ومنع أي فكر دخيل من التسلل إليها، والإبقاء عليها نقية صافية، وذلك بدوام مراجعتها، وإعادة النظر فيها ،والتقيد بها في جميع أحوالنا وحملها للناس بحيث نحملهم على أخذها عنا وذلك بحسن تقيدنا والتزامنا بها. ذلك أن من أكثر عوامل إضعاف الفكرة في نفوس الناس، وحملهم على البعد عن أخذها عنا ،هو مخالفة أقوالنا لأفعالنا .قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ،كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون }وقد توعد الله من يصد عن دعوته بالعذاب الأليم بقوله (وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله). فالتقيد بأحكام الإسلام من أعظم الأمور التي تدفع الناس لقبول دعوتنا وحمل فكرتنا.
ولقد ضرب الصحابة الكرام أروع الأمثلة في إظهار الرجال الأقوياء الذين تقوم الدعوة على أكتافهم، وذلك بثباتهم وصبرهم على الأذى وأظهروا لأعدائهم مدى حرصهم على هذا الدين لأنه أغلى من أرواحهم عليهم . وقصة عبد الله بن حذافة السهمي من أروع الأمثلة التي تدل على ذلك.
فقد وقع عبد الله بن حذافة وجمع من المسلمين كانوا معه في أسر الروم فعرض عليه قيصر أن يتنصر قائلا له : تنصر وأعطيك نصف ملكي وأشركك في الحكم معي .فقال عبد الله رضي الله عنه : لا ، والله لو أعطيتني ملكك وملك آباءك وملك العرب والعجم على أن أرجع عن ديني طرفة عين ما فعلت . تصوروا ما أروع الجواب : طرفة عين ..)ثم أمر بحبسه ومنع الطعام والشراب عنه إلا الخمر ولحم الخنزير حتى كاد أن يموت من الظمأ ومن الجوع. كل ذلك وهو يأبى ويقول (والله إني لأعلم أني لمضطر وأن ذلك يحل لي في ديني ولكن لا أريد أن يشمت بي الكفار) ،ثم جاء التهديد بالقتل فتدمع عيناه ،فظنوا أنه قد ضعف .لكنه خيب ظنهم عندما قال : أبكي والله لأنه ليس لي إلا نفس واحدة تلقى في هذا القدر .. ولقد وددت لو كان لي بعدد شعر رأسي نفوس كلها تموت في سبيل الله مثل هذه الموتة . وهنا تبدأ التنازلات من الخصوم ويكون الهدف هو تحقيق أدنى شيء .فقال له قيصر بعد أن يأس منه : قبل رأسي وأخلي عنك .فقال عبد الله : وعن جميع أسرى المسلمين عندك .ففعل.
هذا الموقف من عبد الله بن حذافة يجسد معنى الصلابة والقوة التي يجب أن يتمتع بها حملة الدعوة . لأنه لا يكفي لظهور الدعوة وتمكينها في الأرض وحصول الاستخلاف ،إلا إذا حمل هذه الدعوة رجال أشداء يتمتعون بالوعي والإخلاص لله والجرأة والشجاعة والصلابة التي لا بد منها أمام خصوم هذا الدين .وأضرب لكم أمثلة من سيرة رسول الله وسلفنا الصالح يظهر من خلاها كيف كانوا فعلاً من الرجال الذي يتحدون أقوامهم ،ويقفون المواقف الجريئة دون أن يحسبوا للنتائج أي حساب . فهذا رسول الله يشتد عليه الأمر بعد وفاة عمه وزوجته خديجة خلال خمسة أيام ،فرق له قلب عمه أبي لهب . فجاءه فقال: يا محمد امض لما أردت وما كنت صانعا إذ كان أبو طالب حياً فاصنعه، لا و اللات لا يوصل إليك حتى أموت. وسب ابن الغيطلة رسول الله فأقبل إليه أبو لهب فنال منه، فولى يصيح يا معشر قريش صبا أبو عتبة، فأقبلت قريش حتى وقفوا على أبي لهب فقال: ما فارقت دين عبد المطلب، ولكني أمنع ابن أخي أن يضام حتى يمضي لما يريد. فقالوا: لقد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم، فمكث رسول الله كذلك أياما يأتي ويذهب لا يعرض له أحد من قريش، وهابوا أبا لهب إذ جاء عقبة بن أبي معيط وأبو جهل إلى أبي لهب فقالا له: أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك؟ فقال له أبو لهب: يا محمد أين مدخل عبد المطلب؟ قال: «مع قومه». فخرج إليهما فقال: قد سألته فقال: مع قومه. فقالا: يزعم أنه في النار. فقال: يا محمد أيدخل عبد المطلب النار؟ فقال رسول الله :( ومن مات على ما مات عليه عبد المطلب دخل النار )فقال: أبو لهب - لعنه الله - والله لا برحت لك إلا عدواً أبدا وأنت تزعم أن عبد المطلب في النار، واشتد عند ذلك أبو لهب وسائر قريش عليه. في هذا الموقف يظهر رسول الله بمظهر المتحدي السافر الذي لا يداهن ولا يتلون في الخطاب رغم حاجته لمن يحميه لمصلحة الدعوة ونشرها ولكنه يأبى ويقول بكل صراحة ليس عبد المطلب وحده في النار بل ومن مات على ما مات عليه عبد المطلب . وهذا سعد بن معاذ ينزل مكة ـ قبل الفتح ـ ضيفا على أمية بن خلف كما يروي عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ حيث قال : ( انطلق سعد بن معاذ معتمراً, قال : فنزل على أمية بن خلف أبى صفوان، وكان أمية إذا انطلق إلى الشام فمر بالمدينة نزل على سعد ، فقال أمية لسعد : انتظر حتى إذا انتصف النهار وغفل الناس انطلقت فطفت؟، فبينا سعد يطوف إذا أبو جهل, فقال: من هذا الذي يطوف بالكعبة؟ّ!، فقال سعد أنا سعد ) لاحظوا التحدي لم يسكت سعد ليجيب عنه أمية وربما يخفي اسمه أو يوري بل تولى الإجابة بنفسه) فقال أبو جهل : تطوف بالكعبة آمناً، وقد آويتم محمداً وأصحابه؟!، فقال : نعم, فتلاحيا بينهما , فقال أمية لسعد : لا ترفع صوتك على أبي الحكم، فإنه سيد أهل الوادي. ثم قال سعد : والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشام .
ومثال آخر قصة عمير بن عدي هذا الرجل الضرير الذي سمع رسول الله يقول ( ألا آخذ لي من ابنة مروان ) لأنها كانت تقول شعراً تؤذي به رسول الله ،فما كان منه إلا أن ذهب بنفسه دون أن يشعر به أحد حتى قتلها ورجع إلى رسول الله وأخبره بالخبر. ثم عاد إلى قومه فلما رأوه قادماً من عند رسول الله ،قالوا له: أنت قتلتها؟ فقال نعم ( فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون . فوالذي نفسي بيده لو قلتم بأجمعكم ما قالت لضربتكم بسفي هذا حتى أموت أو أقتلكم ) فكان لموقفه هذا الأثر البالغ في ظهور الإسلام في بني خطمة بعد أن كان مختفياً .
واليوم أيها الإخوة نحن مطمئنون أن دعوتنا فكرتها صافية ونقية وتتمتع بالقوة التي تقهر كل الأفكار، وفيها من الرجال من نذر نفسه لحراستها من أي فكر دخيل .وفيها كذلك من الرجال الأقوياء الذين يتحدون الجبال الراسيات ،دون أن تلين لهم قناة أو تضعف لهم عزيمة .ولكن هؤلاء الرجال الذي يحمون الفكرة لتبقى قوية ،ويتحدون الجبال الراسيات ،إنما هم بشر يجري عليهم الذي يجري على البشر ،فكلهم بعد عمر طويل إن شاء الله سيفارق هذه الدنيا ليلقى الله وهو عنه راض .فمن لهذه الدعوة من بعدهم ؟؟ من ذا الذي سيملأ الفراغ الذي سيحدث بسبب فقدهم ؟؟
إننا بلا شك مهما بلغ عددنا فإننا نبقى دائما بحاجة إلى دماء جديدة تحمل هذه الدعوة ،وكذلك نبقى بحاجة إلى رجال أقوياء مخلصين ليكونوا هم الواجهة التي تتصدى للصعاب وتتحدى الظلمة في كل مكان . فالواجب أيها الإخوة علينا جميعا أن نستشعر عظم المسئولية الملقاة على عاتقنا ،فلا يصح أن نقول :مادام زيد وعمر يقومون بواجب التحدي والتصدي فهذا يكفي . تذكروا أيها الإخوة غزوة مؤتة عندما استشهد القادة الثلاثة ،لم يترك المسلمون الأمر على حاله بل أخذ الراية واحد من عامة المسلمين ،وتحمل المسئولية وطالب المسلمين أن يتفقوا على قائد لهم يقودهم في هذه المعركة العصيبة .فاختاروا خالداً رضي الله عنه .
وأنتم كذلك يجب أن يأخذ كل واحد منكم الأمر على عاتقه ،فيحمل لواء هذا الدين ويتفانى في سبيله حتى يأذن الله بتنصيب خليفة للمسلمين يقودهم إلى ساحات الوغى .وإن غداً لناظره لقريب فأخلصوا العمل لله، واحملوا هذه الدعوة بإخلاص وبلغوها للناس ،وأكثروا من اتصالاتكم بهم واعتنوا بأمر الكسب واسألوا الله أن يفتح قلوب الناس على أيديكم ،لتروا بركة هذا الأمر في الدنيا بقيام دولة الخلافة على أيديكم، ويوم القيامة في صحائف أعمالكم ،واطلبوا من الله العون والسداد والفتح القريب، واسألوه القبول لأعمالكم ،عسى أن تفوزوا وتفلحوا ،فرب عامل لم يخلص لله في عمله مثله كمسافر حمل على كتفه أكياساً من الرمل فهل تغني عنه شيئاً
أسأل الله أن يجعلنا من حملة دعوته الأقوياء المخلصين ،وأن يفتح لدعوتنا قلوب أهل النصرة والمنعة ،وأن يعيننا على حمل هذه الدعوة للناس بإخلاص ،وأن يجريَ الخير على أيدينا إنه سميع كريم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
08 من محرم 1432
الموافق 2010/12/14م