الرئيسية \ اصدارات \ مقالات \ كيف نحلُّ مشكل الاكتظاظ بالسجون

بسم الله الرحمن الرحيم

كيف نحلُّ مشكل الاكتظاظ بالسجون؟

على خلفية الفضيحة التي أثارتها صور اكتظاظ السجناء في سجن "لكحل" بمدينة العيون، اعترف وزير العدل في لقاءٍ مع الوكلاء العامين للملك ووكلاء الملك ومديري السجون خلال يومٍ دراسي نُظِّم بالرباط بتاريخ 04/10/2005 بأن المساحة المخصصة لكل سجينٍ بالمغرب لا تتعدى 1.5 متر مربع، في حين أن المعايير الدولية تنص على تخصيص 6 أمتار مربعة لكل معتقل، و 3 على الأقل في المتوسط. وكحلٍّ لهذا المشكل، دعا الوزير النيابة العامة إلى تفعيل مسطرة الصلح في قضايا الضرب والجرح والعنف ضد الأصول والتهديد والسكر العلني وذلك لسببين: أولهما ارتفاع عدد القضايا المعروضة سنوياً على المحاكم (65406 قضايا تهمُّ الضرب والجرح، 4800 قضية عنف ضد الأصول، 9212 قضية تهديد، أزيد من 9000 متابعة في حالة السكر العلني)، وثانيهما حسب زعمه، لأن الصلح في قضايا الضرب والجرح بين الجيران وبين الأصول أو في حالات التهديد هو أَفْـيَدُ لكل الأطراف، فمن شأن الزجِّ بأحد المتهمين في السجن أن يُقَوِّيَ العداوة. وكشف الوزير أن لجنةً مختلطةً منكبةٌ حالياً على وضع قانونٍ جنائيٍّ جديدٍ ستتم فيه مراجعة العقوبات على أساس التوجه نحو تجنيح عددٍ من القضايا التي تعتبر اليوم من الجنايات.

ما إن قرأت هذه الإحصائيات الفظيعة والتي تنبئ عن مدى استفحال الجريمة وانعدام الأمن في بلادنا، حتى تذكرت ما أوردته كتب التاريخ من أن عمر بن الخطاب وَلِيَ القضاء في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، فمكث عاماً لم يتخاصم إليه أحد! عام كامل لم تعرض قضية واحدة على القضاء! إما لأنه لم تقع خصومةٌ أصلاً، أو لأن الخصومات كانت بسيطة فتُحل حبِّياً دون أن ترفع للقاضي. أدركت عندها أنه مرةً أخرى، يُخطئ مسؤولونا الحل، ويتعامون عن الحل الناجع، وينصرفون بأنظارهم نحو الأعراض بدل توجيهها نحو أصل المشكل. فقد كان المفروض على الأقل أن يتركز البحث عن سبل القضاء على المشكل من جذوره، أي عن طريقةٍ لتخفيض نسب الجريمة، وبدلاً من ذلك، ها نحن نحصر أنظارنا فقط في التقليل من القضايا التي يُحكم فيها بالعقوبة السجنية. فماذا يفهم من هذا؟ الرسالة واضحة: لا حلَّ عند حكومتنا لارتفاع نسبة الجريمة وانعدام الأمن، والمشكل بالنسبة لها ليس هو أن يكون المواطن آمناً في سربه، مطمئناً على ماله ونفسه وأهله، وإنما المشكل بالنسبة لها هو قلة السجون فقط، وما دامت الدولة غير مستعدةٍ لبناء سجون أخرى، فالحل الوحيد المتبقي إذن هو إفراغ السجون من نزلائها (فقد دعا الوزير إلى إعطاء الأسبقية لقضايا المعتقلين الذين نقضوا الأحكام الصادرة في حقهم، ولم يُبتَّ في قضاياهم، ويقدر عددهم بـ 11 ألف معتقل!)، وتفعيل مسطرة الصلح بين المتخاصمين بدل معاقبة الجاني بالسجن، وتغيير القوانين بحيث تتماشى مع هذا التوجه.

لست في معرض الدفاع عن العقوبة السجنية أو المطالبة بإبقائها، ولكني أذكر المسؤولين أن الغاية الأصلية من العقوبة هي الردع والزجر، فإنما شُرِعت العقوبات لردع الجاني عن ارتكاب جنايته قبل أن يُقدم عليها، فإذا ارتكبها، كانت العقوبة اقتصاصاً للمظلوم والمجتمع منه، وعبرةً لغيره. أما ما تفكر فيه الوزارة، فهو عكس ذلك تماماً، فحتى تُخفِّف من الاكتظاظ في السجون، تقترح تفعيل مسطرة الصلح في قضايا الضرب والجرح والتهديد والعنف ضد الأصول والمتابعة في حالة السكر العلني. لن أكون قارئاً للغيب إذا قلت أن هذا التوجه إذا تم تطبيقُه فعلاً، فإن نتائجه ستكون كارثيةً على أمن المواطن، فهو في حقيقته بُشرى لكل المجرمين أن افعلوا ما شئتم، واعتدوا على من شئتم، وهدِّدوا من شئتم، واسكروا وعربدوا كما يحلو لكم، فلن تُمَسَّ حريتكم، ولن تذوقوا طعم السجن، فسجوننا مكتظة، ولا مكان لدينا للمزيد من أمثالكم، وأقصى ما نستطيع فعله، أن نجمعكم مع من اعتديتم عليهم، وأشبعتموهم ضرباً، أو شججتم رؤوسهم، أو أرعبتموهم في الشوارع، أو أهنتموهم على رؤوس الخلائق ...، ونطلبَ منكم، وقد نلحُّ عليكم، أن تعتذروا لهم مما صدر منكم، وتُقَـبِّلوا رؤوسهم، والله غفور رحيم. فإن عُدتم إلى جرائمكم، عُدنا إلى الإلحاح عليكم في طلب الصّفح من ضحاياكم. هذا كل ما تستطيع الوزارة فعله للحدِّ من تنامي الجريمة!

إن بلادنا تعرف تراجعاً خطيراً للأمن، بل ولا نبالغ إن قلنا إن بعض بوادر الانفلات الأمني أو ما يسمى "السيبة" قد أصبحت تُطلُّ بين الحين والآخر هنا وهناك، هذا مع وجود القانون السابق، فكيف إذا تمَّ تخفيف العقوبات، لا شك أن الانفلات سيتضاعف.

إن الحل لمشكل تنامي الجريمة معروفٌ لمن كان جادّاً في سعيه لتحجيمها: تطبيق شرع رب العالمين. فشرع الله وحده، هو الذي يكفل للناس جميعاً إشباع حاجاتهم، لا فرق بين شريفٍ ووضيع، وشرعُ الله وحده هو الذي يقضي على الفقر والبطالة والفوارق الاجتماعية الفاحشة، ويخفف من الاحتقان المتفشي في مجتمعاتنا، ويقضي بالتالي على كل دوافع الإجرام. فإذا تجرّأ أحدٌ واعتدى على حدٍّ من حدود الله، طُبـِّق عليه القصاص الإلهي العادل الرادع، فيكون رادعاً له عن العودة لفعلته، وعبرةً لغيره ممن توسوس له نفسه ترويع أمن الآمنين.

17/10/2005.

التعليقات