الرئيسية \ اصدارات \ مقالات \ الديمقراطية والفصل بين السلطات: حقيقة أم محض تنظير؟

بسم الله الرحمن الرحيم

الديمقراطية والفصل بين السلطات: حقيقة أم محض تنظير؟

تداولت الصحف قيام المجلس التشريعي الفلسطيني بتاريخ 13/02/2006، بالمصادقة على قانون يمنح رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس صلاحية إنشاء محكمة دستورية وتعيين قضاة من دون الرجوع إلى المجلس، ويمنح هذا القانونُ الرئيسَ صلاحية إلغاء أي قانون قد يصادق عليه المجلس التشريعي الجديد باعتباره مخالفاً للدستور. ورداً على ذلك، قال الشيخ سعيد صيام عضو المجلس التشريعي الجديد عن حماس، وأحد قياداتها أن "المجلس التشريعي المقبل لن يعترف بأي خطوات استباقية اتخذها المجلس القديم"، وقال أنه "ليس من حق المجلس التشريعي القديم إصدار أي قرارات أو تعيينات أو ترقيات، ولن نعتبر أي قرارات اتخذها (يقصد القرارات الأخيرة) دستورية أو شرعية وسنعمل على إلغائها". وقال صيام: "لا يجوز أن يتخذ مجلسٌ منتهيةٌ صلاحيتُه وأعضاؤه متهمون بالفساد أي قرار، ليس هؤلاء من يقرر، بل الشعب هو الذي يقرر". ويعلم الجميع أن إقدام نواب المجلس على تمرير هذا القانون هو من باب منح الرئيس "الفتحاوي" أقصى صلاحيات ممكنة قبل مجيء نواب حماس الناجحين في الانتخابات الأخيرة. وتعليقاً على هذا الحدث، أشير إلى نقطتين:

أولاً، خطورة أن يكون التشريع بيد البشر: لقد لبث أعضاء هذا المجلس في مناصبهم حوالي عشر سنوات، لم يخطر ببالهم طوال هذه الفترة أن يصوتوا على هذا القانون، بل ومن الممكن أنهم كانوا يعارضون سن مثل هذا القانون حتى يُـبقوا للمجلس سلطةً رقابيةً على تصرفات الرئيس تمنعه من الانحراف، ولكن بما أن أغلبية البرلمان انتقلت إلى حزب آخر، فإن مصلحة الحزب أو التنظيم أولى من مصلحة البلد، وقطع الطريق على حماس أولى من إبقاء الرئيس تحت رقابة المجلس، وعلى ضوء هذا أخذ المجلس قراره بتمرير القانون دعماً للرئيس الفتحاوي ونكايةً في الأغلبية الحماسية. وهنا خطورة أن يكون التشريع لعبةً بيد البشر فيسُـنُّون من القوانين ما يوافق أهواءهم ومصالحهم، وتطغى المصالح الشخصية أو القبلية أو التنظيمية الضيقة على مصالح البلاد العليا. والبشر مهما حاول التجرد من الأهواء والمصالح الشخصية، فلن يستطيع، وسيظل محكوماً بها شاء أم كره.

ثانياً، حقيقة فصل السلطات: سلطت هذه الحادثة الضوء على كذب ادعاءٍ يُكرِّرُه دعاة الديمقراطية على كونه إحدى "الفتوحات" التي جاءت بها الديمقراطية، وهي فصل السلطات، أي فصل السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية عن بعضها البعض. وينص المبدأ الديمقراطي على وجوب ضمان فصل هاته السلطات واستقلاليتها التامة عن بعضها البعض لأن اجتماعها في يد شخصٍ واحدٍ ينتج نظاماً ديكتاتورياً مستبداً. وبالفعل، فإن ما نشهده في دولنا حيث تتجسد الديكتاتورية في أوضح صورها، يتكرس فيه هذا المزج بين السلطات بشكله البشع، حيث يتولى رأس الدولة الحكم بشكل مباشر، والتشريع من وراء ستار بجعل البرلمانات تمرر ما يشتهيه من قوانين، بينما لا يستطيع هذا البرلمان ممارسة أي دور رقابي حقيقي إما نتيجة تهميشه أو نتيجة كونه خاضعاً خضوعاً تاماً لسلطة رأس الدولة. أما القضاء فإن الواقع يؤكد أن الحكم في القضايا الحساسة لا يكون بناء على القرائن ورأي القانون، بقدر ما يكون خاضعاً لاعتبارات سياسية وأهواء الحاكم، حيث تُبَـلَّغ الأحكامُ للقضاة عبر الهاتف، وتنحصر مهمة القضاة في تلاوة الأحكام في قاعات المحاكم. وها نحن نشهد في حالتنا هذه تطبيقاً عملياً آخر للمزج التام بين السلطات دون أي شبهة فصل، حيث أوحى الرئيس (السلطة التنفيذية) للبرلمان (السلطة التشريعية) بتمرير قانون يُقَـنَّن رقابة مؤسسة القضاء (السلطة القضائية) على الرئيس. إلا أنه قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن هذا المزج لا يحصل إلا في البلاد الديكتاتورية، أما في البلاد الديمقراطية فالفصل بين السلطات قائم، ولا يمكن لأي سلطة أن تتحكم في الأخرى، وقد يضرب لذلك بعض الأمثلة. والتدقيق في الواقع يثبت عكس ذلك. فإن كان المزج بين السلطات يتم في البلاد الديكتاتورية بشكل فجٍّ ومفضوحٍ، فهو يقع أيضاً في البلاد الديمقراطية ولكن بشكلٍ مُبطَّن. فمن المعروف أن العُرف الديمقراطي يقضي بأن يتولى الحزب الحاصل على الأكثرية البرلمانية تشكيل الحكومة. وبهذا، ومن أول وهلة، يحصل أول تداخل بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، حيث تستطيع الحكومة بوصفها ممثلةً للأغلبية البرلمانية الحصول على ثقة البرلمان، وتكون المعارضة عاجزةً عن حجب الثقة عنها أو تمرير أي قانون لا ترضى عنه الأكثرية (الحكومة)، بينما تستطيع الحكومة عبر أكثريتها البرلمانية تمرير ما تشاء من قوانين ما دام أن الأكثرية يجانبها، وهذا حاصلٌ ومشاهدٌ فعلاً في أكثر الدول ديمقراطية (أمريكا، فرنسا، بريطانيا،...) فإن كان هذا التداخل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية لا ينافي الفصل المُنادى به في المبدأ الديمقراطي، فإني لا أعلم متى يمكن أن ينتفي الفصل!؟

أما عن القضاء، فإن أقصى ما يستطيع أن يفعله القاضي هو أن يطبق القانون دون تَحَـيُّزٍ لأي جهة، لكنه لا يستطيع أن يحكم بما يخالف القانون، فإن كان القانون غير عادلٍ فهو لا يملك أن يغيره، بل ولا يملك إلا أن يُطبقه ويلزم المتخاصمين بتطبيقه. فإذا كانت الأغلبية البرلمانية هي التي تصدر القوانين، فإن الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية يكون قد تبخّر مرة أخرى، ويكتمل المزج بين السلطات الثلاث اكتمالاً تاماً، حيث تتمخض الأغلبية البرلمانية (السلطة التشريعية) عن تشكيلة الحكومة (السلطة التنفيذية) وتتحكم السلطة التشريعية في السلطة القضائية عن طريق سنِّ القوانين الملزمة للقضاة. هذا دون الحديث عن الحقوق التي تمنحها دساتير معظم الدول الديمقراطية للرئيس (السلطة التنفيذية) بإبداء حق النقض لمنع تطبيق قانون معين تم تبنيه من طرف السلطة التشريعية أو تأجيل تطبيقه، أو بإصدار عفو رئاسي في حق متهمين أدانهم القضاء. وهذه الحالات وإن كانت استثنائية، إلا أنها دليل إضافي على وجود التداخل بين السلطات الثلاث في النظام الديمقراطي.

وهكذا تكون الديمقراطية قد فشلت في الواقع في تحقيق ما تدعو إليه من ضرورة فصل السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وأما ما تدعيه من نجاح فهو لا يعدو أن يكون تنظيراً لا وجود له في الواقع، وأما الممارسة فتثبت عكس ذلك تماماً، فالأغلبية البرلمانية تتحكم في كل سلطات الدولة، دون وجود أي فصل بينها، اللهم إلا في المقالات وآراء الفلاسفة والمنظرين.

والسؤال الآن: إذا كانت الديمقراطية قد عجزت عن إيجاد هذا الفصل الضروري لضمان عدم استبداد الحكام، فكيف السبيل لتحقيقه إذن؟ وقبل الجواب ينبغي إدراك أن المناداة بالفصل بين السلطات عند دعاة الديمقراطية إنما جاء علاجاً لمشكل، لذا وجب فهم حقيقة المشكل أولاً قبل بحث العلاج. وأصل المشكل عند فلاسفة الديمقراطية هو ما عاناه أهل أوروبا من ظلم الحكام واستبدادهم بتواطؤٍ من رجال الكنيسة. فقد كان الحكام يدَّعون لأنفسهم حقاً إلهياً يُخَوِّلهم احتكار كل السلطات وحُكْم الناس كيفما يشتهون، وكانت الكنيسة تُسايرهم في ذلك وتُسَهِّل لهم مُرادهم بسنِّ القوانين وفق مصالحهم، وقانون "صكوك الغفران" أشهر من نارٍ على علم، فنتج عن هذا الاستبداد الصراع المعروف والذي انتهى بتبني فكرة فصل الدين عن الحياة. وحتى يضمن فلاسفة الديمقراطية عدم استبداد الحاكم واستفراده بمفاصل صنع القرار، قلَّصُوا من صلاحياته ووزَّعوا مسؤوليات الحكم. فاخترعوا فكرة فصل السلطات للفصل بين السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية، ثم قلصوا من صلاحيات شخص الحاكم باختراع مناصب الوزراء، وجعل الوزير حاكماً مستقلاً في ميدان وزارته. هذا عن الباعث والغاية لفكرة فصل السلطات، وهو الحيلولة بين الحكام والاستبداد. إلا أن المتمعن في أصل المسألة يرى أن هذه الغاية لا يمكن تحقيقها إلا بالحيلولة بين الحكام والتشريع. ذلك أن تقليص صلاحيات الحاكم إنما جاء بناءً على قانون معين، وهذا القانون ليس مقدساً، فهو قابل للتغيير، ولا يحتاج تغييره إلا أن يتفق المشرعون على ذلك. واحتمال هذا الاتفاق وارد، بل وحاصل ومشاهدٌ في واقعنا، وضمان أن يكون الباعث على التغيير دائماً هو مصلحة المجتمع لا مصلحة الحكام أو مصلحة جهةٍ معينةٍ مُتعذر، بل إن الحاصل هو أن معظم التعديلات القانونية آتية من رغبات الحكام أو اللوبيات المتنفذة. ولذلك نقول إن مجرد وجود خيطٍ يصل بين الحكام والتشريع يجعل من الوارد أن يعملوا على تعديل القوانين كيفما يشاءون لتعزيز صلاحياتهم. وقد رأينا كيف أن النظام الديمقراطي يمنح هذه الفرصة بامتياز عندما يجعل للأغلبية البرلمانية (صاحبة صلاحية إصدار القوانين) حق تشكيل الحكومة (صاحبة صلاحية الحكم والتنفيذ). وقد رأينا كيف استطاع هتلر الناجح في انتخابات ديمقراطية سن ما يشاء من قوانين ومن ثم التحول إلى أشهر ديكتاتور في القرن العشرين، كما نرى في الواقع اختلاف صلاحيات الرئيس ورئيس الوزراء من بلد ديمقراطي لآخر مع أن أصل نظام الحكم في كل هذه البلدان واحد. فما الحل إذن؟

قلنا إن مجرد وجود خيطٍ يصل بين الحكام والتشريع يوجد احتمالاً للاستبداد، وهذا الخيط لا يمكن قطعه ما دام التشريع مناطاً بأشخاص. فاحتمال أن يؤثر الحكام على هؤلاء الأشخاص واردٌ، واحتمال أن يُداهن هؤلاء الأشخاصُ الحكامَ بسنِّ ما يوافق أهواءهم من قوانين طمعاً في منصبٍ أو أعطيةٍ أو مخافة عقابٍ كذلك واردة. لذلك فالحل الجذري لا يكون إلا بإيجاد الفصل بين البشر والتشريع، بمنع وجود مجلسٍ تشريعي أصلاً، وهذه هي الطريقة الوحيدة لضمان قطع الطريق بين الحكام والاستبداد. والسؤال الآن، إذا حُلنا بين البشر والتشريع، فمن يتولى التشريع إذن؟

إن البحث الذي نحن بصدده هو عن الجهة التي يمكن أن تُصدر لنا التشريع الصحيح، ولو أن المطلوب هو مجرد التشريع لكان الأمر هيِّـناً ولما استدعى الأمر كل هذا التحري، فالإنسان قد خاض غمار التشريع، ولا يزال، سواء بشكل فردي أو جماعي، فمنع وأباح، وحسَّن وقبَّح، وحلَّل وحرَّم، قال تعالى: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) (النحل:116) ، إلا أن هذه المحاولات البشرية لم ينتج عنها إلا ما نرى من ظلم ومآسي، فصحة التشريع مرتبطةٌ، وجوداً وعدماً، بصلاحية الجهة التي صدر عنها التشريع. أما مقياس الحكم على صلاحية الجهة المشرعة فهو أن يجتمع فيها شرطان: أولاً، العلم والخبرة بحيث يُضمن أن تكون قوانينها صادرةً عن إحاطةٍ بكل التفاصيل وفي كل الميادين، وفيما كان وما سوف يكون، لأن الجاهل بشيءٍ لا يستحق أن يُشرِّع له، وثانياً: العدل والنزاهة بحيث يضمن عدم وجود إمكانية انحياز الطرف المُشرِّع لأيِّ جهةٍ لانعدام إمكانية المنفعة أو المضرة. فإذا اتفقنا على هذين الشرطين، وهما ضروريان، فإنهما لا يمكن أن يجتمعا إلا في الله سبحانه وتعالى، فهو وحده العليم الخبير، قال تعالى: (وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (يونس: 61)، وقال أيضاً: (الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود: 1)، وهو وحده الذي لا يمكن أن تلحقه منفعة ولا مضرة من البشر، قال تعالى: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ) (الحج: 64)، وقال أيضاً: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ) (فاطر: 15).

ودين الله الإسلام، هو الوحيد الذي يمكن أن يحقق هذا الفصل التام، فالتشريع فيه بيد الله وحده، والقوانين لا تكون شرعية ما لم تكن مستنبطةً من أدلتها التفصيلية من مصادر الوحي باستنباطٍ صحيح. ولا يستطيع أي فرد حاكماً كان أم قاضياً أم مسؤولاً أم وجيهاً مهما أوتي من جاهٍ أو مالٍ سن أي قانون يخالف الشرع، ولا إلغاء أو تغيير أي قانون شرعي مبني على دليل قطعي. فالحاكم والقاضي على السواء ملزمان بالقانون الرباني، ولا يُستثنى أحد.

بقيت شبهةٌ قد تكون تبادرت إلى ذهن القارئ وهي ما يُشاع من أن الفقهاء في الإسلام يلعبون دور المشرعين، وأنهم يمكن أن يداهنوا السلطان فيؤولوا النصوص وفق شهوات الحكام، والصواب هو أن دور الفقهاء ينحصر في فهم النصوص واستنباط الأحكام الشرعية لمعالجة الوقائع المتجددة، ويبقى المشرع الوحيد هو الله سبحانه وتعالى، أما احتمال أن يداهن الفقهاء السلطان، فإنه وإن كان وراداً، إلا أن هامش حركة الفقهاء يبقى محدوداً فيما تتقبله النصوص الظنية الدلالة وفق قواعد الاستدلال المثبتة عند علماء الأصول، وهم لا يستطيعون أن يلغوا نصاً ولا أن يؤولوه وفق فهمٍ لا يحتمله.

وفي الختام نقول أن الفصل بين السلطات الثلاث والذي نادت به الديمقراطية، بقي حبراً على ورق، وفشلت الديمقراطية في تحقيقه في الواقع. أما الإسلام، فعالج المشكلة من جذورها، ففصل بين الإنسان والتشريع، وبذلك يكون قد قطع كل طريق يمكن أن تؤدي إلى الاستبداد، فالحاكم والقاضي ملزمان، كما كل أفراد المجتمع بالخضوع للأحكام الشرعية، ولا يملكان أن يحكما بأمرٍ إلا إذا استدلا عليه بدليلٍ من الكتاب والسنة. قال صلى الله عليه وسلم: « مَنْ أحْدَثَ في أمرنا هذا ما لَيْسَ فيه فَهُوَ رَدٌّ » (رواه الشيخان).

 20/02/2006.

التعليقات