الرئيسية \ اصدارات \ مقالات \ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)

عرفت عدة مدن بشمال المغرب، خروج آلاف السكان الأسبوع الماضي في تظاهراتٍ بالشوارع احتجاجاً على فواتير بمبالغ باهظة، حذرت الشركة الفرنسية (أمانديس)- المسئولة عن تسيير شئون الكهرباء والماء - بقطع الخدمات إذا لم يسددها السكان قبل أيام من عيد الأضحى، ووصل الأمر ببعض السكان حد وصف ما أقدمت عليه الشركة الفرنسية بـ"حملة فرنسية ضد العيد". وجاءت هذه الاحتجاجات بعد أن وزعت شركة "أمانديس" فواتير على المستهلكين بمبالغ وصفها السكان بأنها "خيالية". وتسلم الآلاف من السكان فواتير بمبالغ باهظة، مصحوبةً بتحذيراتٍ بقطع خدمات الكهرباء والماء في حالة عدم سداد الفواتير خلال أجل محدد وقصير ينتهي قبيل عيد الأضحى. كما تلقى الآلاف من السكان فواتير متأخرة من عدة أشهر ظلت في سجلات الشركة، وقررت إخراجها في هذه الأيام التي ينشغل فيه المغاربة بتدبير ثمن أضحية العيد التي أحياناً ما يقترضون أو يبيعون قطعاً من الأثاث لشرائها.

وقد أقر المدير التجاري في "أمانديس" بوجود أخطاء "ذات طبيعة تقنية" في الفواتير، ووعد بحلها قائلاً: إنه "تم إصلاح أكثر من ربع الفواتير". وأوضح أن عدداً كبيراً من الفواتير، خاصة التي وزعت بمدينة أصيلة، بها أخطاء في التقدير وقع فيها موظفو الشركة. وقال: إن قطع الخدمات عن المستهلكين الذين لا يسددون الفواتير "عمل قانوني حسب دفتر التحملات (الالتزامات القانونية) الذي أنجزته الشركة باتفاق مع الحكومة المغربية".

هكذا تستقبل دولتنا العيد، وهذه طريقتها في مباركته لرعاياها الأعزاء: رفعٌ لأسعار المواد الضرورية، وأخطاء في حساب الفواتير، وإثقالٌ لكاهل المواطنين المقصوم أصلاً!

تروي الحكايات الشعبية، أن تاجراً كان يستعدُّ للتوجه إلى السوق حاملاً بضاعته، فأبرك جمله على الأرض وشرع في تحميل البضاعة على ظهره غير مكترثٍ بطاقته وقدرته على الحمل، وأخذ يُراكم البضاعة الثقيلة ويُكوِّمُها على ظهره حتى لم يُبْـقِ مُتَّسعاً، وبقي للتاجر رزمةٌ جد ثقيلة لم يعرف أين يضعُها، فنطق الجمل قائلاً: "حَمِّل ولا تهتم، فإنني في كل الأحوال لن أقوم".

مع احترامنا لأنفسنا وإخواننا، إلا أن الظاهر أن هذا المثل ينطبق على ما جرى بيننا وبين الدولة وأمانديس، فكأن هؤلاء لم يكفهم كل هذا الفقر والحاجة التي نعيش فيها، ولم يكفهم كل هذا التضييق في الأرزاق الذي يمارسونه على الناس من ضرائب لم ينزل الله بها من سلطان، فرأوا أن ميزانية الناس لا تزال تحتمل المزيد من الخصم، فقرروا استغلالها ورفع أسعار الماء والكهرباء، غير آبهين بقدرة الناس وطاقاتهم المنهكة أصلاً بمستلزمات العيش، ولا مكترثين بكونهم مقبلين على عيدٍ يأكل ما قدموا له من مدخراتهم، فما يهمُّ أمانديس هو ربحها، وما يستحوذ على فكرها هو أن تسترد ما استثمرت أضعافاً مضاعفة ولو أدى ذلك إلى إجبار الناس على العودة إلى الاستقاء من مياه الآبار والاستنارة بفتائل الغاز، وما دام عقد التدبير المفوض الذي أبرمته مع الدولة يبيح لها رفع الأسعار، وقطع الماء والكهرباء عن المتأخرين عن سداد الفواتير، فلن تتردد في ذلك، وليس أمام المتضرر إلا... لن أقول اللجوء إلى القضاء، فالقضاء المحتكم إلى القانون الوضعي لن يُنصفه، ولن يحكم له بحقه في التزود بالماء والكهرباء الذين كفلهما الله له وجعلهما حقاً مستحقاً له في رقبة الدولة يجب عليها توفيرهما له دون أن تستحق على ذلك جزاءً ولا شكوراً، أقول ليس أمام المتضرر إلا التحسّر على هذا الواقع الذي عاد فيه المستعمر بقناع مختلف، وبعدما ظننا لعقود أننا قد أخرجناه بتضحيات أجدادنا، إذا هو قابع بين ظهرانينا، يتحكم في مائنا وكهربائنا، يبيعنا إياهما بالثمن الذي يشاء، ويمنعنا إياهما وقتما يشاء.

إلا أن الفرق بين أهلنا في شمال المغرب وبين جمل القصة الشعبية، أن أهلنا والحمد لله لم يستسلموا، ولم يقبلوا خانعين، بل خرجوا يُبدون احتجاجهم ونقمتهم، مدركين أن الأصل في عمل الدولة هو الرعاية، وكفالة مصالح الناس، وليس الجباية وإثقال كاهل الناس بالضرائب والمصاريف.

ومع أن الاحتجاج أمر طيبٌ ومحمودٌ، وأمارةٌ على أن في الجسم بقايا روح، إذ إن الجثة الهامدة وحدها هي التي لا تتأثر بالوخز، إلا أن مجرد الاحتجاج دون التفكير في أصل المشكل وسبل علاجه ثم العمل على تطبيق الحلول في أرض الواقع، لا يجدي نفعاً وستستنفذ طاقات الغاضبين في الحركات الاحتجاجية، وتُبَـحُّ أصواتهم من الصياح في المظاهرات، وقد تطفئ الدولة جمرة غضبهم بحلول ترقيعية فتخبو النار تحت الرماد، وتُسكَّن الآلام بشكل مؤقت، إلا أن أصل المشكل سيبقى قائماً وإن خفت آثاره إلى حين، فتبقى جذوة النار متقدةً تتحيّن الفرص لكي تستعرَّ من جديد.

فما هو أصل المشكل إذن؟

إن أصل المشكل دون شكٍّ هو تفويتُ هذه المرافق الضرورية وهي الماء والكهرباء من الملكية العامة، إلى القطاع الخاص. فمن المعلوم أن القطاع الخاص قطاعٌ لا يهمُّه إلا الربح، وتحويل هذين الميدانين الحيويين إلى دائرة صلاحيات القطاع الخاص يحولهما إلى مادةٍ ربحيةٍ وسلعةٍ خاضعةٍ لقوانين التجارة ولمنطق المضاربة والربح والخسارة مما يعرض الناس لضيقٍ شديد. فطبيعة هذين القطاعين، وكونهما مما لا يستغني عنهما الإنسان، تمنع اختصاص الخواص بهما، وتحتم أن يكونا من الملكية العامة، وأن يُمكَّن الجميع منهما، أغنياءً كانوا أم فقراء، دون مقابل، أو على أقصى تقديرٍ بثمن الكلفة. وقد فَطِن الإسلام لهذه المسألة، وهو الدين الموحى من فوق سبعة أرقعة، فجعل الماء، والكلأ (أي المراعي)، والنار (أي كل ما يستعمل للإنارة أو للوقود) ملكاً لعامة المسلمين، ومنع أن يختص بهذه الأصناف الثلاثة أحدٌ فيمنع عامة الناس من الاستفادة منهن، قال رسول الله R: « ثلاثٌ لا يُمْنـعْن: الماءُ، والكلأ، والنار » )صحيح/ ابن ماجة(، وقال R: « المسلمون شُركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار » )صحيح/ ابن ماجة(، وقال R: « لا يُمنَعُ فَضْلُ الماء ». )صحيح البخاري(، وقال أيضاً: « ثلاثة لا يُكلِّمهم الله ولا يَنْظُرُ إليهم: رجلٌ حَلَفَ بعد العصر على مال امرئٍ مسلمٍ فاقْتَطَعَهُ، ورجلٌ حَلَفَ لقد أُعْطِيَ بسلعته أكثر مما أُعْطِيَ، ورجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ الماء، يقول الله : اليوم أمنعُك فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ ما لم تَعْمَلْهُ يَداك» )صحيح ابن حبان(، وعن جابر بن عبد الله T قال: « نهى رسول الله R عن بيع فضل الماء» )صحيح مسلم(. إذن فهذه النصوص تُحرِّم تحريماً قطعياً أن يستأثر أحدٌ بالماء ويمنع منه عموم الناس. وبالعودة إلى كتب الفقه، نجد أن الفقهاء قد بحثوا الأمر وفصّلوه بما يرفع كل لُبسٍ عنه، ولتوفير الجهد على القارئ للعودة إلى كتب الفقه والغوص في ثناياها، نورد مختصراً ما جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية، بصفتها موسوعة حديثة وجامعةً لآراء الفقهاء على سائر المذاهب.

جاء في الموسوعة تحت باب "شرب":

تنقسم المياه بالنّظر إلى تملّكها، والانتفاع بها إلى أربعة أقسام:

القسم الأوّل: الماء العامّ

وهو النّابع في موضع لا يختصّ بأحد ولا صنع للآدميّين في إنباطه وإجرائه، كالأنهار الكبيرة كالنّيل والفرات ودجلة وسائر أودية العالم والعيون في الجبال، فهذا النّوع حقّ للنّاس جميعاً وليس لأحد ملكٌ في الماء ولا في المجرى. ولكلّ واحد حقّ الانتفاع به بالشّفة، والشّرب، وله شقّ الجداول من الأنهار ونحوها، ونصب آلات السّقي عليها لإجراء المياه لأرضه وغير ذلك من وسائل الانتفاع بالماء. وليس لحاكمٍ ولا لغيره منع أحدٍ من الانتفاع به بكلّ الوجوه إن لم يترتّب على فعله ضررٌ على النّهر أو الجماعة. لخبر « المسلمون شُركاء في ثلاثة: في الكلأ والماء والنّار ».

القسم الثّاني: المياه الجارية في أنهار وسواقي مملوكة:

من حفر نهراً يدخل فيه الماء من النّهر العظيم أو من نهرٍ متفرّعٍ منه، فالماء في هذا باقٍ على إباحته، ولكن مالك النّهر أحقّ به كالسّيل يدخل في ملكه، ولغيره حقّ الشّرب منه والاستعمال، وسقي الدّوابّ لا سقي أرضه وشجره، فإن أبى صاحبه كان للمضطرّ أخذُه جبراً، وله إن مَنَعَهُ أن يقاتله ولو بالسّلاح لأنّ الماء في النّهر غير مملوكٍ بشرط ألاّ يجد المضطرّ ماءً مباحاً، وذلك لأثر عمر t : "رُوِيَ أنّ قوماً وردوا ماءً فسألوا أهله أن يدلّوهم على البئر، فلم يدلّوهم عليها، فقالوا: "إنّ أعناقنا وأعناق مطايانا قد كادت تتقطّع من العطش، فدُلُّونا على البئر، وأعطونا دلواً نستقي"، فلم يفعلوا، فذُكِر ذلك لعمر t فقال: "هلاّ وضعتم السّلاح فيهم".

القسم الثّالث: أن يكون المنبع مملوكاً

كأن يحفر بئراً في ملكه أو في موات للتّملّك، أو انفجرت في ملكه عين. فإنّه يملك الماء لأنّه نماء ملكه كالثّمرة واللّبن وإلى هذا ذهب المالكيّة والشّافعيّة، ولكن يجب عليه بذل الفاضل من الماء عن شربه لشرب غيره، وبذل ما فضل عن ماشيته لماشية غيره لحديث: « المسلمون شركاء في ثلاث: في الكلأ والماء والنّار »... وليس له أخذ العوض عنه، للنّهي عن بيع فضل الماء، ولا يجب بذل فضل الماء لزرعه. وقال المالكيّة: له منعه من غيره، وبيعه، وهبته، والتّصدّق به، إلاّ من خيف عليه هلاكٌ أو ضرر شديد، ولا ثمن معه حين الخوف عليه، وإن كان غنيّاً في بلده، فليس للمالك في هذه الحالة منعه، ولا بيعه، بل يجب عليه دفعه له مجّاناً، ولا يرجع عليه بعد ذلك ولو كان غنيّاً في بلده.

وقال الحنفيّة: إنّ ماء الآبار، والحياض، والعيون لا يُملك بل هو مباحٌ في نفسه، سواء حُفِر في أرض مملوكة أو أرض مباحة، ولكن لحافر البئر في ملكه، أو في موات للتّملّك، ولمن نبعت العين في أرض يملكها حقّ الاختصاص، لأنّ الماء في الأصل خلق مباحاً، لقول النّبيّ r: « المسلمون شركاء في ثلاث: الكلأ والماء والنّار » والشّركة تقتضي الإباحة لجميع الشّركاء إلاّ إذا حصل في إناء وأحرزه به، فيصير مملوكاً، لأنّه استولى عليه وهو غير مملوكٍ لأحد كسائر المباحات غير المملوكة، وإذا لم يوجد ذلك بقي على أصل الإباحة الثّابتة بالشّرع، فلا يجوز بيعه لأنّ البيع لا يصحّ في مالٍ غير مملوك. وليس له أن يمنع النّاس من الشّرب بأنفسهم وسقي دوابّهم منه لأنّه مباح. وقد روي عن النّبيّ r: « أنّه نهى أن يُمنَع نقع البئر » وهو فضل مائها الّذي يخرج منها، فللنّاس أن يشربوا منها ويسقوا منها دوابّهم، ولكن إذا كان في أرضٍ مملوكةٍ فلصاحبها أن يمنع من الدّخول في ملكه، لأنّ في الدّخول في ملكه إضراراً به من غير ضرورة وله أن يدفع الضّرر عن نفسه. وإن اضطُرّوا إليه بأن لم يجدوا ماءً غيره وخافوا الهلاك، فإنّه يُجبَرُ على أن يأذن لهم في الدّخول في ملكه أو يُخرج الماء لهم، ولهم أن يقاتلوه على ذلك بالسّلاح ليأخذوه وإلى هذا ذهب الحنابلة.

القسم الرّابع: الماء المحرز بالأواني والظّروف

وهذا مملوك لِمُحْرِزه باتّفاق الفقهاء ولا حقّ لأحد فيه، لأنّ الماء وإن كان مباحاً في الأصل فإنّ المباح يُملك بالاستيلاء إذا لم يكن مملوكاً للغير كالحطب والحشيش والصّيد فيجوز بيعه، وهبته، والتّصدّق به. وقد جرت العادة في جميع أمصار المسلمين وفي سائر الأعصار على بيع السّقّائين المياه المحرزة في الظّروف من غير نكير، فلا يحلّ لأحد أخذه بغير إذن محرزه، إلاّ أن يخاف الهلاك ويكون عند المحرز فضلٌ عن حاجته فيجب عليه بذله له، فإن امتنع أن يقدّمه له فله أن يقاتله عليه.

وبعد هذا البيان الشافي، لا أظن أن اثنين سيختلفان حول حُرمة أن تتحول هذه المادة الحيوية إلى سلعةٍ يُساوَم عليها الناس، وتباع لهم دون مراعاة حالتهم المادية من غنىً أو فقر، ولا أظن أن اثنين سيختلفان حول حرمة أن يُمنع الماء عن الناس إلا مقابل أداء ثمن، فكيف إذا كان الثمن مما لا يطيقون أداءه!؟ لا شك أن ذلك حرامٌ حرمةً قطعية. وما ينطبق على الماء، ينطبق على الكهرباء، فهما مشمولان بحديثٍ واحد، فالكهرباء تُستعمل للإنارة وللوقود لذلك فهي مما يدخل تحت بند "النار" الواردة في الحديث.

هذا عن الحكم الشرعي في تحول الماء والكهرباء إلى سلعٍ لا يُمكَّن من الانتفاع بها إلا من أدّى ثمنها، وهو أمر ٌلا يمكن تلافيه حين يتم تفويت هذين القطاعين إلى الخواص، فكيف إذا كان هؤلاء الخواص من الكفار؟ وكيف إذا كان هؤلاء الكفار مستعمرين سابقين، أي من أصحاب السوابق في نهب خيرات البلاد؟ وكيف إذا كان هؤلاء المستعمرون السابقون ممن قام الدليل القطعي على استمرار وجود نواياهم الخبيثة في الاستئثار بخيرات البلاد بإعادة استعمارها من جديد بقناع مغاير، وممن قام الدليل القطعي على سعيهم الدؤوب لإضعاف البلاد لمنعها من مقاومة ما يُكاد لها؟ وكيف إذا كان هذا التفويت جزءاً من سياسةٍ عامةٍ وُضعت بخبثٍ، تقضي بتفويت المفاصل الحيوية في الدولة إلى القطاع الخاص فيما يسمى بالخوصصة حتى تفقد الدولة سيطرتها على الناحية الاقتصادية؟ وكيف إذا كانت سياسة الخوصصة هذه، سياسة مملاةً ومفروضةً بشكل مباشر من الغرب ومؤسساته المالية كشرطٍ لإعطائنا شهادة حسن السيرة والاستمرار في منحنا قروضهم الملغومة...؟ لا شك أن الحرمة تتضاعف وتتضاعف...

والسؤال الذي يَرِدُ هنا: إذا كان الحكم الشرعي واضحاً إلى هذا الحد، ولا يلزم الباحث عنه إلا قليل جهد، فَلِمَ خالفته الدولة؟ أتُراها تجهله، أم أنها تتجاهله وتُعرض عنه رغم معرفتها به؟ كم كنت أودُّ أن يكون الجهل هو سبب المخالفة، ولو كان الأمر كذلك، لذكَّرناها بالحكم ولعرضنا عليها النصوص الشرعية وآراء الفقهاء فيها، فيُحلَّ المشكل، ولكن نظرة بسيطةً تُرينا أن مخالفة الأحكام الشرعية ليست مقتصرةً على هذا الحكم وحده، بل هي شاملةٌ لكل الأحكام الشرعية، ولا يسلم من هذه المخالفة إلا بعض أحكام الزواج والميراث، وما عداها فالقوانين الوضعية هي الأساس وهي التي يتحاكم إليها الناس. إذن فمخالفة الحكم الشرعي في التصرف في الماء ليست نشازاً ومخالفةً للقاعدة، بل هي جزءٌ من سياقٍ عام، اختارت فيه الدولة أن تضع شرع الله جانباً ثم تنهل من قوانين البشر، فتستنبط من أهوائهم وما تمليه عليه مصالحهم قوانين تُسيّر بها شؤون الحياة، فتُعبِّد البشر للبشر وتزيدهم رهقاً.

لقد سبق الإخبار من رب العالمين، أن عاقبة الانحراف عن أمره وخيمة، وأن التنكُّب عن شرعه لا يُولِّد إلا البوار والخسران في الدنيا والآخرة، فأما في الدنيا، فتطبيق شرائع البشر لا ينتج إلا الظلم والقهر والفساد والفقر، وها نحن نرى ذلك في واقعنا واضحاً بادياً لكل ذي عينين، وها نحن نراه في مسألة مخالفة أمر الله في جعل الماء والكهرباء ملكاً عاماً، فما إن تم تفويتهما للخواص، حتى سُرِّحت أعداد كبيرة من العمال لينضافوا إلى طوابير العاطلين عن العمل، وتم رفع الأسعار بحيث لم تعد الاستفادة من هاتين المادتين مُتَأتِّـيةً إلا بضنكٍ شديد، وصدق رب العالمين إذ يقول: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى) )طه: 124(، وأما عاقبة الإعراض عن شرع الله في الآخرة فتُبَـيِّنُه باقي الآيات: ( قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا % قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى % وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) )طه: 125-127(.

إن الخروج إلى الشوارع للاحتجاج على فواتير الماء والكهرباء، وإن كان عملاً محموداً كما أسلفنا، ولكنه يبدو على ضوء ما ذكرنا غير كافٍ لتغيير هذه الأوضاع التي نعيشها، وإن كان رفع أسعار الماء والكهرباء مفسدةً يجب دفعها، فإن الإعراض عن شرع الله مفسدةٌ أكبر، بل أسُّ المفاسد، وهو الأولى بالدفع، وإن كان رفع أسعار الماء والكهرباء مشكلاً يستوجب الحل، فإنه في حقيقته لا يعدو أن يكون أحد أعراض المشكل الأكبر، مشكل تعطيل أحكام الله والاحتكام بدل ذلك إلى شرعة فرنسا وبريطانيا أو غيرهما من بلاد الكفر. وهذا هو المشكل الذي يجب أن توجه إليه الجهود وتركّز فيه الطاقات، وهو لن يُحَلَّ إلا بتضافر الجهود في عملٍ سياسي جماعي يشترك فيه كل أهل الغيرة على هذا الدين، فيبينون للناس فساد النظرة الرأسمالية، وفشل معالجاتها، ويطرحون الإسلام وأفكارَه في المجتمع طرحاً سياسياً، ويبينون للناس بالحجة والبرهان طريقة الإسلام الناجعة في رعاية مصالحهم، فيوجدون بذلك بإذن الله تياراً شعبياً ضاغطاً لا يرضى بغير الإسلام نظاماً، ويقودونهم نحو التغيير الذي نتشوَّق إليه جميعاً.

وصلِّ اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلِّم تسليماً كثيراً.

13 ذو الحجة 1426 هـ

الموافق 13/01/2006 م .

التعليقات