الرئيسية \ اصدارات \ مقالات \ وقفات تأملية... في انتخابات شتنبر التشريعية

بسم الله الرحمن الرحيم

وقفات تأملية... في انتخابات شتنبر التشريعية

بعد انتهاء الحمى الانتخابية التي عرفتها بلادنا وانقضاء الحملة التنافسية التي أشغلت الناس والصحافة شهوراً، وبعد ظهور النتائج النهائية، وجب على العقلاء وأهل الفكر أن يقفوا وقفات تأملية، ويستخلصوا العبر، فيفقهوا الرسائل المبثوثة بين السطور، ويعوا معاني الأرقام وما وراءها، فيستفيدوا ويفيدوا سواهم ممن لا يملكون القدرة على الفهم العميق، وتجاوز القشر إلى اللب. وسأحاول في عجالة أن أقف في محطات فرضتها الأحداث ونضحت بها الأرقام سعياً لاستخلاص العبر.

1- إن أول أمر صادم في هذه الانتخابات دون شك هو نسبة المشاركة المتدنية التي أبانت عنها (37%)، ورغم محاولة وزير الداخلية التخفيف من أثرها بالقول أنها تماثل ما يجري في دول ديمقراطية عريقة، فإن الإنصاف يقتضي القول إن هذه النسبة جاءت مخيبة لآمال الكثيرين. فمن المعروف أن الدولة قد بذلت جهداً كبيراً بشكل مباشر لحث الناس على المشاركة في الانتخابات وبلَّغت رسائل واضحة عن نيتها تنظيم انتخابات شفافة ونزيهة (وهو أمر التزمت به) وتولى أعوان السلطة بأنفسهم إيصال البطائق الانتخابية للمواطنين حتى لمن لم يطلبوها، وقام الملك بنفسه (في ما يعتبر سابقة) بدعوة الناس إلى المشاركة... وإلى جانب ذلك، قامت الدولة بتشجيع الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني التي انبرت لهذا الغرض، فعقدت هذه الجمعيات مئات اللقاءات والمناظرات والقوافل الدعائية في المدن والقرى والمناطق النائية، ووزعت عدداً هائلاً من المناشير والكتيبات التحسيسية، إلا أنه رغم كل هذه الجهود والأموال المنفقة، ظهر وكأنها حرثٌ في البحر حيث لم تستطع مجرد الإبقاء على نفس مستوى المشاركة في الانتخابات السابقة (52%) والتي لم تعرف مثل هذه الحملة الدعائية! والعجيب في الأمر أن الدعوة إلى المقاطعة لم تتبنها أي جهة سياسية وازنة في البلاد حتى يستشف من ذلك حجم هذه الجهة، أي أن الناس قد اجتمعوا بكثافة على أمر لم يدعُهم إليه أحد، وأعرضوا عن أمر دعتهم إليه كل الأطياف السياسية في البلاد. وعليه يمكن استخلاص ما يلي:

أ- إن الدولة نجحت نجاحاً منقطع النظير في تقزيم الأحزاب والتيارات السياسية حيث أبانت هذه الانتخابات بشكل جلي أنه لا يوجد في المغرب أي تيار سياسي وازن يستطيع أن يحرك الشارع ولو لهدف بسيط كالمشاركة في الانتخابات،

ب- إن من المعروف عند المراقبين أن الذي يدفع الناس إلى التصويت على شخص دون سواه ليس هو برنامج الحزب الذي ينتمي إليه، فالناس لا تدرس البرامج الانتخابية بل ولا تطّلع عليها في أحيان كثيرة، وأكثر من نصف الناخبين أميون، وإنما يختار الناس بناءً على معرفتهم للأشخاص وثقتهم بهم، فإذا كان الأمر كذلك، فإن القول إن مقاطعة الانتخابات راجعة إلى فقدان الناس الثقة في المرشحين غير دقيق، لأن القول بذلك يعني إن الناس يعتقدون أن كل المرشحين ليسوا أهلاً للثقة، وهذا قول لا شك أنه يجانب الصواب لأن الناس لا يعرفون كل المرشحين وبالتالي لا يستطيعون الحكم عليهم، وعليه فمقاطعة الناس ليست ناتجة عن فقدان الثقة في المرشحين وإنما لفقدانهم الثقة في النظام السياسي ككل (برلمان، حكومة، تناوب، ديمقراطية، ...)، وفقدانهم الثقة في أن هذه المؤسسات القائمة قادرة، أو لها مجرد نية القيام بإصلاح حقيقي يكفل رعاية مصالحهم وتحقيق مطالبهم، وهذا هو السبب الحقيقي لإعراض أو عزوف الناس عن الانتخابات: لأنهم لا يرون لها جدوى مهما يكن الناجح فيها.

ج-إن نسبة المشاركة المتدنية تطرح سؤالاً جدياً حول شرعية البرلمان المقبل بصفته يمثل أغلبية الشعب كما تنص على ذلك مبادئ الديمقراطية، فلو فرضنا أن 80% ممن يحق لهم التصويت سحبوا بطاقاتهم الانتخابية (وهي نسبة "متفائلة" نظراً للإقبال المتدني الذي عرفته مكاتب التسجيل)، واعتبرنا نسبة المشاركة (37%)، ونقصنا منها نسبة الأصوات الملغاة (19%)، فستكون نسبة المصوتين من مجموع من يحق لهم ذلك هي 24% فقط! أي أن البرلمان "يمثل" إرادة ما يقل عن ربع المغاربة، بينما الثلاثة أرباع الباقية منهم ليسوا معنيين به ولا يمثلهم! فكيف يمكن أن يقال بعد هذا أن النظام ديمقراطي، وأن البرلمان يجسد إرادة الشعب، والقرارات الصادرة عنه هي انعكاس لإرادة الشعب عن طريق ممثليه!

2- أعلنت وزارة الداخلية في 30 غشت الماضي أن الميزانية المرصودة للانتخابات بلغت 500 مليون درهم، موزعة بين التنظيم اللوجستي وتمويل الحملة الانتخابية للأحزاب وتعميم البطائق الوطنية للتعريف ومراجعة اللوائح الانتخابية. وأنها جندت لها من الموارد البشرية ما يفوق 320 ألف شخص بين أعضاء مكاتب التصويت والموظفين الإداريين وقوات الأمن. وهذه أرقام لا شك مهولة، لا من حيث الإمكانيات المادية (ما يعادل الحد الأدنى للأجور لـ 7500 عامل لما يفوق ثلاث سنوات) أو البشرية. فهل من الحكمة أن تُجنَّد كل هذه الإمكانيات على عملية لا يعير لها المغاربة أي اهتمام؟ ثم إن الكل يعلم أن صلاحيات البرلمان جد محدودة، وأن تأثيره الفعلي في مجريات الحياة السياسية يكاد لا يذكر، فالفاعل الأساسي دستورياً وعملياً هو الملك، فهل من الحكمة إذن أن تنفق كل هذه الأموال على عملية لن يجني المغاربة منها نفعاً؟ لقد تحولت الانتخابات من وسيلة للوصول إلى رأي الشعب، إلى غاية في حد ذاتها بغض النظر عن قدرتها على تحقيق المطلوب منها، أو لنقل أن الانتخابات تحولت إلى "مجاملة" يقوم بها النظام لإرضاء الأحزاب السياسية بتوزيع بعض المقاعد عليها وإلهاء الناس كل خمس سنوات وخلق حراك في بركة الحياة السياسية الراكدة.

3- إن من غرائب الانتخابات الأخيرة أنه على الرغم من كون لفظة الإسلام كانت حاضرةً في المطبوعات التي وزعتها معظم الأحزاب، وأن معظم المرشحين حاولوا الظهور بمظهر المتقين الذين يخافون الله، إلا أن الإسلام كان الغائب الأكبر في البرامج الانتخابية، فعلى الرغم من وجود أكثر من حزب يعلن أنه يتبع المرجعية الإسلامية، فإن أي حزب منها لم يقترح حلاً إسلامياً للمشاكل المطروحة، لا على المستوى الاقتصادي ولا الاجتماعي ولا السياسي، أي أن الإسلام كنظام حياة كان غائباً كلياً عن الطروحات الانتخابية، بل أكثر من ذلك، لم يجرؤ أي حزب على رفع مجرد شعارات من قبيل "الإسلام هو الحل"، أو أن "الحل بالرجوع إلى الإسلام وتطبيق الشرع". لقد كان أقصى ما نادت به الأحزاب "الإسلامية" هو "تخليق" الحياة السياسية، وهي في هذا لم تختلف عن باقي الأحزاب، بما في ذلك اليسارية، حيث اشتركت جميعها في هذا الشعار. لهذا ففشل حزب العدالة والتنمية في الحصول على المرتبة الأولى لا يمكن أن يتخذ دليلاً على انحسار التأييد للإسلام السياسي في الشارع المغربي، لأن العدالة والتنمية بكل بساطة لا يمثل الإسلام السياسي، وإنما يحاول جاهداً أن يصبح نسخة من صنوه التركي، حزباً محافظاً علمانياً على غرار الأحزاب الديمقراطية المسيحية الأوروبية.

2002-09-10

التعليقات