الرئيسية \ اصدارات \ مقالات \ رداً على مقال "نحو مغرب علماني ديمقراطي"

بسم الله الرحمن الرحيم

رداً على مقال "نحو مغرب علماني ديمقراطي": العلمانية حلٌّ فاشلٌ لمشكلٍ مُتَوَهَّم!

نشر موقع مرايا برس بتاريخ 23/02/2010 مقالاً للكاتب محمد مقصيدي بعنوان: "نحو مغرب علماني ديمقراطي"، وقد أثارني في المقال تجرؤ الكاتب في طرح عدد من الأفكار بطريقة جد سطحية توحي بأنها حقائق لا جدال فيها، بينما هي في الواقع أبعد ما تكون عن الصواب.

وقد تضمن المقال عدداً من الأفكار التي لا أتفق معها، إلا أنني وللاختصار سأركز على فكرتين فقط: الفرق بين الإسلام والمسيحية، ثم المثال العملي الناصع للدولة العلمانية.

1- الفرق بين الإسلام والمسيحية:

إن مما لا ينكره أحد أن العلمانية قد ظهرت في أوروبا من باب التمرد على ظلم الكنيسة المسيحية وتحالف رجالها مع الحكام الظلمة لاستعباد الناس، وهذا مما لم ينكره الكاتب أيضاً، إلا أنه حاول أن يسقط هذا الواقع علينا نحن المسلمين أيضاً بالإشارة إلى تحالف علماء السلطان مع الحكام لتبرير ظلمهم مما هو واقع في زماننا، فيكون بذلك المناطان متشابهين (بلغة علماء الأصول)، فيجوز حينئذ إسقاط حل العلمانية المطبق في المجتمعات المسيحية على مجتمعاتنا الإسلامية. إلا أن الذي فات الكاتب، هو الفرق الجوهري بين الديانتين المسيحية والإسلامية. فالديانة المسيحية كما يعرف المطلعون لا تحتوي على نصوص تشريعية أصلاً، والأناجيل برواياتها المختلفة بين أيدينا تؤكد ذلك، بل وتؤكد في بعض الأحيان على معاني العلمانية نفسها فيما يُنسب إلى المسيح عليه السلام في إنجيل متى (والله أعلم بصحته): «أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ، وَمَا ِللهِ ِللهِ». وعليه فإن تدخل رجال الكنيسة في أمور الحكم لملء الفراغ التشريعي، كان بدافعٍ من هوىً صرفٍ وتقاطع مصالح مع الحكام والأمراء لا من باب تطبيق النصوص الواردة في الإنجيل، وتم تبرير هذا التدخل بناء على نصوص "موضوعة" (بلغة علماء الحديث) أو اجتهادات "شخصية" لفهم وتأويل النصوص وتحميلها ما لا تحتمل، وقد أشار إلى ذلك الله تعالى بقوله: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِندِ اللَّـهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ[1]﴾، كما أكد هذا المعنى شهود عديدون من أهلها، نذكر منهم "وليام تامبل"[2]، الذي اعترف بتدخل البشر في وضع النصوص، بل وبرَّره بكل وقاحة حين قال :"إن من الخطأ الفاحش أن نظن أن الله وحده هو الذي يقدم الديانة أو القسط الأكبر منها"[3]، كما أكد هذا المعنى كذلك "ليكونت دى نوي[4]" حين قال: "إن ما أضافه الإنسان إلى الديانة المسيحية، والتفسيرات التي قدمها، والتي ابتدأت منذ القرن الثالث بالإضافة إلى عدم الاكتراث بالحقائق العلمية، كل ذلك قدم للماديين والملحدين أقوى الدلائل المعاضدة في كفاحهم ضد الدين"[5].

ولم تكتف الكنيسة باختراع النصوص على هواها لتبرير ما تشتهيه، بل استغلت سلطتها الفكرية والمادية لقمع كل محاولات العلماء والفلاسفة للانعتاق، يقول الأب لاكتانتيوس (Lactantius[6]): "لو كان هناك احتمال للوصول إلى الحقيقة عن طريق البحث والدراسة، لكنا قد توصلنا إليها من زمن بعيد. وبما أنه لم يتوصل إليها برغم ما ضاع في سبيل ذلك من وقت وجهد، فمن الواضح الجلي إذن أن الحكمة والحقيقة لا وجود لهما"[7].

لذلك فإن المطالبة بمنع تدخل رجال الكنيسة ومن ثم المطالبة بفصل الدين عن أمور الحكم هو من باب إحقاق الحق وتحصيل الحاصل، لأن الدين المسيحي لم يأت أصلاً بأي نصوص تعالج تلك الأمور. لذلك فإن المسيحي لا يجد أي حرج في تبني العلمانية لأن هذا التبني لا يطعن في عقيدته بل يسايرها. وهنا نقول إن المسيحيين قد تأخروا كثيراً في إدراك هذا، حيث استمرت مخادعة الكنيسة وكذبها على رعاياها في ادعائها بالحق في تولي أمور الحكم، منذ تبني الدولة الرومانية للمسيحية في القرن الرابع الميلادي إلى أواسط القرن الخامس عشر الميلادي أي حوالي 11 قرناً، ولولا احتكاك المسيحيين بالمسلمين ما كانوا ليدركوا حجم الحيف الواقع عليهم فيبدؤوا بالتفكير في التمرد على ظالميهم، وهذا بشهادة مفكري الغرب، تقول زيغريد هونكه: "لقد حولوا (أي المسلمين) الأندلس في مائتي عام حكموها من بلدٍ جدب فقير مستعبد، إلى بلد عظيم مثقف مهذب يقدس العلم والفن والأدب، قدم لأوروبة سبل الحضارة وقادها في طريق النور... ولعل أكبر دليل على هذا هو أن الغرب بقي في تأخره ثقافياً واقتصادياً طوال الفترة التي عزل فيها نفسه عن الإسلام ولم يواجهه. ولم يبدأ ازدهار الغرب ونهضته إلا حين بدأ احتكاكه بالعرب سياسياً وعلمياً وتجارياً. واستيقظ الفكر الأوروبي على قدوم العلوم والآداب والفنون العربية من سباته الذي دام قروناً ليصبح أكثر غنى وجمالاً وأوفر صحة وسعادة[8]".

أما في الإسلام، فإن النصوص الصريحة القطعية الثبوت القطعية الدلالة من آيات وأحاديث والتي تنظم كل أمور الحكم من سياسة داخلية وخارجية واقتصاد وطب وتعليم وسكن وجهاد ودعوة ،... أقول هذه النصوص أكثر من أن تحصى، قال تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ[9]﴾، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا[10]﴾، وقال أيضاً: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[11]﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: «المُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِى ثَلاَثٍ: فِى الكَلإِ وَالمَاءِ وَالنَّار[12]ِ»، وقال أيضاً: «هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ[13]»، وقال أيضاً: «يَا عَلِيُّ، إِذَا جَلَسَ إِلَيْكَ الخَصْمَانِ فَلا تَقْضِ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَسْمَعَ مِنْ الآخَرِ كَمَا سَمِعْتَ مِنْ الأَوَّلِ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ لَكَ القَضَاءُ[14]»، وكان السلف الصالح يدركون أن النصوص الشرعية تعالج كل أمور حياتهم اليومية حتى التافهة منها، حتى اشتهر بينهم قول سفيان ابن عيينة رحمه الله: "إن استطعت أن لا تَحُكَّ رأسك إلا بأثرٍ، فافعل".

وعليه فإن فصل الدين عن السياسة في الإسلام متعذر، فالدين سياسة[15] والسياسة من الدين. أورد القرطبي في معرض تفسيره لقوله تعالى ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ[16]﴾، الربَّانِيُّون: الذين يدبّرون أمور الناس ويصلحونها، والربانيّ الذي يجمع إلى العلم البصَر بالسياسة.

لقد جاءت أحكام الإسلام لتنظم كل أمور الحياة اليومية للإنسان وهي كما صنفها العلماء تدخل في ثلاث دوائر:

1- علاقة الإنسان بربه: ويدخل فيها أحكام العبادات من صلاة وصيام وحج وطهارة وذكر، ...

2- علاقة الإنسان بنفسه: ويدخل فيها أحكام المطعومات والمشروبات والملبوسات، ...

3- علاقة الإنسان بغيره: ويدخل فيها أحكام التجارة والتعليم والطب والقضاء والدعوة والجهاد، ...

فالقول بفصل الدين عن السياسة يقتضي تعطيل العلاقة الثالثة كلياً بالإضافة إلى تعطيل طريقة إيجاد العلاقتين الأولى والثانية عملياً في الحياة. وهذا مما لا شك فيه يتعارض مع مقتضى العبادة بمعنى التسليم والانقياد لأوامر الله ونواهيه والتزام أحكامه، إذ كيف يمكن لمسلم يقرأ كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتقرع أذنيه آيات وأحاديث التشريع فيقرر من تلقاء نفسه أن يعرض عنها، بل أدهى من ذلك، أن يُعَطِّلَها ويحول دون تطبيقها، ويعدل عن التشريع الإلهي المنزل من فوق سبع سماوات إلى تشريع من صنع البشر الذي تتقاذفه الأهواء والمصالح الشخصية ويكتنفه الخطأ والسهو والنسيان!؟ وإن كان فصل المسيحية عن الحياة لا يشكل أي مخالفة "شرعية" عند المسيحي كما ذكرنا سابقاً، فإن المسلم الذي يفصل الإسلام عن أمور حياته اليومية يكون آثماً على أقل تقدير لأنه يكون قد عطَّل جزءاً كبيراً من أحكام الشرع، فإن اعتقد بوجوب فصل الإسلام عن شئون الحياة لأن أحكام الشرع غير صالحة وأن أحكام البشر خير منها، فإنه يعتبر كافراً بإجماع علماء المسلمين.

وتلخيصاً لما سبق، نقول: إن قياس وضعنا على وضع أوروبا والدعوة لتطبيق نفس الحل الذي ارتضته لنفسها لا يستقيم للأسباب التالية:

إن استيراد حل العلمانية لتطبيقه في مجتمعاتنا أمر لا يمكن أن يرضاه المسلمون، لأنهم يدركون بكل بساطة أنه مخالفة شرعية تعرضهم لغضب الله في الدنيا وللعقاب في الآخرة، بخلاف المسيحيين الذين لا تشكل العلمانية أية مخالفة شرعية بالنسبة إليهم،

إن مزج الدين بالسياسة أدى إلى رفعة الإسلام والمسلمين ووصولهم إلى أعلى الدرجات، وعلى مر التاريخ تناسبت رفعة المسلمين اطراداً مع حسن تطبيقهم لتعاليم الدين، بخلاف الحاصل عند المسيحيين الذين أدى تدخل الدين عندهم إلى التخلف والجهل،

لم يسجل التاريخ أي خلاف بين الفقهاء والحكام وبين أهل العلوم الدنيوية، بل على العكس من ذلك كان الحكام على الدوام يتبنون العلماء ويغدقون عليهم الأعطيات ويشجعون البحث العلمي، وكان معظم العلماء فقهاء في نفس الوقت، بخلاف الكنيسة التي اضطهدت العلماء وحاربتهم وسفَّهت أبحاثهم العلمية،

إن تطبيق العلمانية في بلادنا لم ولن يحل أي مشكلة من مشاكلنا، لأنها أصلاً هي النظام المطبق عملياً في بلادنا وسائر بلاد المسلمين منذ دخول الاستعمار الغربي إلى الآن، ومع ذلك، فالتخلف والفقر ضاربان أطنابهما في ربوعنا.

2- المثال الساطع للعلمانية:

إن القارئ للمقال يحس أن الكاتب يحاول بشتى الطرق إقناعنا أن العلمانية هي الحل السحري لكل مشاكلنا، وأن ما نعانيه في حياتنا الآن هو بالأساس نتيجة للتحالف المخزني / المساجدي الذي يبرر للمخزن تجاوزاته بغطاء شرعي من الفقهاء. وسأفترض جدلاً أنني اقتنعت نظرياً بأن العلمانية هي الحل للمشاكل التي نعيشها، إلا أن صعوبة هذا الحل وحجم الجهد اللازم لإقناع الناس به، يقتضي منا، قبل السير فيه أو البدء في الدعوة إليه، وحرصاً على ألا تضيع جهودنا سدىً، دراسة النجاحات التي حققها هذا الحل، ومدى سعادة الناس الذين يعيشون تحت ظل رايته. فمن المعلوم أن أهم وسيلة لإقناع أي مريض باستعمال وصفة معينة، هي إعطاؤه مثالاً حياً لمريض كان يعاني من مثل مرضه، فلما تناول الوصفة المعروضة برء من سقمه، ونقول إذن: أرونا هذه الدولة المثال التي طبقت العلمانية فنضح الخير منها على رعاياها وعلى البشرية؟

أهي أمريكا التي لا ترفع رأسها من أزمة اقتصادية حتى تهوي على أم رأسها أزمة أفظع منها فتبتلع الأموال بالملايير وتقذف بعشرات الآلاف إلى الفقر والتسول؟ أم أمريكا التي تنشر الرعب والقتل في أنحاء العالم وتبيح لنفسها إسالة أنهار الدماء كي تضمن تدفق النفط والمواد الخام إلى مصانعها؟

أهي بريطانيا مصاصة الدماء، التي بلغت مستعمراتها المشارق والمغارب، فنهبت منها حتى التخمة، ثم لم ترض أن تخرج من أي بلد حتى زرعت فيه فتنة لا تزال تهلك الحرث والنسل إلى اليوم (كشمير، سنغافورة، فلسطين، ...)؟

أهي فرنسا التي قتلت بدم بارد في الجزائر ما بين 7 إلى 8 مليون مسلم طوال فترة الاحتلال التي دامت 130 سنة، منهم 1.5 مليون في حرب الاستقلال في الخمسينات من القرن الماضي، و 45 ألفاً في يوم واحد في مذبحة سطيف سنة 1945، ومع ذلك هي لا تزال تستكثر على الضحايا مجرد اعتذار؟ أم فرنسا التي لا تزال تعيش على نهب مستعمراتها السابقة والاستئثار بخيراتها تاركة شعوبها ليأكلهم الفقر والجوع؟ أم فرنسا التي تبيح التعري والإباحية وتحارب الحجاب والنقاب وتضيق على العفيفات؟

أهي سويسرا التي تعتاش على حماية أموال اللصوص والناهبين من الحكام وحواشيهم الفاسدين وتحميها من أن يستردها أصحابها، ثم ها هي لا تقبل مجرد أن ترتفع مئذنة في سمائها ضاربة بعرض الحائط كل الشعارات البراقة عن التسامح وقبول الآخر التي أصمّت آذاننا بها؟

أم هي السويد التي تخطف أبناء المسلمين من أحضان آبائهم، ولا تستطيع أن تضمن لشعبها أدنى قدر من الاستقرار النفسي يقيهم من أن يحطموا الأرقام القياسية في معدلات الانتحار؟

أين هي هذه الدولة التي تبشروننا بها يا معشر بني علمان أننا سنصبح مثلها إن نحن تبنينا العلمانية وطبقناها في حياتنا اليومية؟ أهذه هي الأمثلة الساطعة التي يراد لنا أن نتشبه بها ونسير على خطاها؟ دول ميكيافيلة منافقة مجرمة!؟ بئس المثال إذن!

ومع كل ما طرح الكاتب، فإن أغرب ما ذكره هو اتهامه الإسلام بأنه يفرق بين الناس، فهذا ملحد، وهذا مؤمن، وهذا حنبلي والآخر شافعي، وهذا سني والآخر شيعي، ... وجعله هذا مسوغاً لوجوب نبذ الدين للتخلص من هذه التصنيفات! وهنا لا أملك إلا أن أستغرب من هذا القول؟ أيُتَّهم الإسلام الذي جمع بين الفارسي والرومي والحبشي والقرشي، بين السيد والعبد، بين الأبيض والأسود والأحمر في أُخُوَّةٍ لم تعرف لها البشرية مثيلاً، أيتهم هذا الدين بأنه يفرق بين الناس؟ إن أوروبا والغرب العلماني لا يستطيع مجرد أن يحلم بتحقيق مثل هذه الأخوة بين مكونات شعوبه، فليست تخلو دولة من دول أوروبا من قومية تريد الانفصال وتفجر وتقتل هنا وهناك للوصول إلى غايتها، من إسبانيا إلى فرنسا إلى بريطانيا إلى غيرها من الدول، أما أمريكا، فحدث ولا حرج، فبمجرد أن ينخفض مستوى الغنى بقليل ستذبح القوميات والأعراق والعصابات بعضها البعض في الشوارع، وما حدث عشية أحداث لوس أنجلوس (1994)، وما تلا فيضانات لويزيانا ليس عنا ببعيد. أما عجز هذه الدول عن استيعاب وإدماج المهاجرين من الأعراق المختلفة، فهو أشهر من نار على علم، بل وحتى هذه الدول نفسها تعلن عن عجزها، ولا تزال تنتقل من فشل إلى آخر. أما التصنيفات، فليس يخلو منها بلد، ولا شعب، فالكل يصنف، إما على أساس فكري، أو حزبي، أو عرقي، أو علمي، أو حتى رياضي... ، وليس مهماً أن نُصنِّف، بقدر ما هو مهم أن نبحث العلاقة بين صنفين مختلفين، فما الضير أن يوجد بيننا مالكي وشافعي، إن كانا متآخيين متحابين؟ إن أنصار فريقين رياضيين متنافسين يقتلان بعضها البعض في الشوارع الآن في ظل الأنظمة العلمانية، ومع ذلك فلا يجد الكاتب في ذلك ضرراً، ولكن أن ينتمي مسلمان إلى فريقين فكريين أو فقهيين مختلفين، مع أنه أرقى أنواع الخلاف، فإن الكاتب يعتبر هذا مبرراً لإلغاء الدين ككل؟

إن المناداة بالعلمانية كحل في بلادنا نحن المسلمين هو دليل في نظري على عمق الحضيض الذي وصلنا إليه، فلو أن شعباً مغموراً كالإسكيمو أو سكان أستراليا الأصليين ممن لا حضارة لهم ولا تاريخ تبنوا مثل هذه الدعوة لالتمسنا لهم العذر ولقلنا مغزوٌّ افتُتِن بغازيه، لكن أن يتبناها مسلم ينتمي إلى حضارة سادت العالم على مدى ما يزيد عن 12 قرناً كانت فيه الدولة الإسلامية سيدة العالم دون منازع، فعمَّ الخير في ربوع الدولة، ونَعِمَ الناس بالعدل والأمان، ووُزِّعت الأموال على الناس حتى لم تجد من يأخذها، وأشعَّت على العالم بالعلم والخير والرفاه في وقت كانت أوروبا تغطُّ في سباتٍ عميق ويلفُّها غطاءٌ سميكٌ من الجهل والخرافة، أقول أن يتبنى مسلم دعوى العلمانية، فهذا هو الانضباع بعينه!

إن أهل هذه البلاد مسلمون، أكرمهم الله بهذا الدين منذ نيف و13 قرناً، عاشوها في ظل دُولٍ حكمت بالإسلام، فعرفوا مجداً سطّره لهم التاريخ بماء الذهب، وكانت لهم اليد الطولى في فتح الأندلس والحفاظ عليها لقرون ثم التوغل شمالاً في أوروبا وجنوباً في فيافي وأدغال أفريقيا لنشر الإسلام وهداية الناس إلى الخير، وإن كان أهل أوروبا قد عانوا من تسلط الكنيسة عليهم باسم الدين فقرروا إبعاده عن أمور حياتهم اليومية فذلك شأنهم، أما المسلمون عامة ومنهم أهل المغرب فقد خبروا دينهم فاستيقنوا أن لا رفاه لهم ولا هناء إلا بتطبيق أحكامه والاستنان بهديه، فلم يكن الدين يوماً حاجزاً يحول بينهم وبين التقدم حتى يفكروا في إبعاده، بل على العكس من ذلك تماماً كان على الدوام الحافز الأهم والرافعة الأقوى لاقتعاد أعلى المناصب بين الأمم، كلما أخلصوا دينهم لله، كلما علوا في الدرجات وسادوا من حولهم.

أفنترك الطريق المضمون من رب العالمين، المنار بالأضواء الكاشفة من سنة النبي الكريم والخلفاء الراشدين، المُجرَّب على مئات السنين، لنسلك طريقنا أنبأنا الله أنه لا يقود إلا إلى الهلاك والضنك والشقاء، ثم رأينا تلك النبوءة بأم أعيننا تتجسد فيمن سلكه، بل وفينا حين أعرضنا عنه؟

من ذا الذي ينزع بيده ملاءة عزِّه وثوب فخره وقلادة مجده؟ من يفعل ذلك إلا المجانين!؟

06/03/2010.

[1]  سورة البقرة، الآية 79.

[2]  William Temple، أسقف كنيسة كنتربري وحبر أحبار إنجلترا، توفي سنة 1944، كان كاهنا في كنيسة انجلترا، شغل منصب أسقف مانشستر (1921-1929)، ثم رئيس اساقفة يورك (1929-1942)، ثم رئيس أساقفة كانتربري (1942-1944).

[3]  الجفوة المفتعلة بين العلم والدين، محمد علي يوسف، بيروت 1966.

[4]  Pierre Lecomte du Nouÿ، عالم رياضيات وفيزياء حيوية، كاتب وفيلسوف فرنسي، توفي سنة 1947، من أشهر التطوريين المحدثين، صاحب نظرية تطورية مستقلة عن نطرية داروين، له كتب أشهرها (مصير الإنسان).

[5]  نفس المصدر السابق، نقلاً عن كتاب " العلمانية: نشأتها وتطورها و آثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة" للكاتب سفر بن عبدالرحمن الحوالي.

[6]  (Lucius CaeliusFirmianus Lactantius) كاتب وأستاذ مسيحي، توفي سنة 320م، كان يدافع عن المعتقدات المسيحية ضد الانتقادات الصادرة عن الفلاسفة.

[7] من كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب" للمستشرقة الألمانية زيغريد هونكه ، دار الجيل، بيروت، الطبعة الثامنة، ص 361.

[8]  نفس المصدر السابق، ص 541.

[9]  سورة المائدة، الآية 49.

[10]  سورة البقرة، الآية 282.

[11]  سورة النور، الآية 2.

[12]  رواه أبو داود وصححه الألباني.

[13]  رواه أحمد، وصححه الألباني.

[14]  رواه أحمد في مسنده، وحسنه الأرناؤوط، وصححه الألباني.

[15]  يُقصد بمصطلح السياسة في الشرع، رعاية مصالح الناس بالإسلام.

[16]  سورة آل عمران، من الآية 79.

التعليقات