الرئيسية \ اصدارات \ جواب سؤال \ اتفاق منسك وتسارع الأحداث في أوكرانيا

بسم الله الرحمن الرحيم

جواب سؤال

اتفاق منسك وتسارع الأحداث في أوكرانيا

السؤال:

لوحظ تسارع لافت للنظر في اتصال ميركل وأولاند مع بوتين ثم التوافد إلى مينسك وحضور رئيس أوكرانيا... وبعد اجتماعهم توصلوا إلى اتفاق في مينسك يقضي بوقف لإطلاق النار شرقي أوكرانيا اعتبارا من الأحد 15/02/2015م وإقامة منطقة منزوعة السلاح... وجاء في اتفاق مينسك أن أمام السلطات الأوكرانية والمتمردين في شرق البلاد يومين بعد وقف إطلاق النار للبدء بسحب الأسلحة الثقيلة عن خط الجبهة. بما يسمح بإقامة منطقة عازلة يتم توسيعها إلى سبعين كيلومترا على جانبي خط الجبهة... فما الذي جعل أوروبا "فرنسا وألمانيا" أن تسارع بل تهرول إلى الاتصال بروسيا لعقد اتفاق سياسي في أوكرانيا حتى دون ذكر شيء عن القرم، وهي التي كانت تماطل في مثل هذا الاتفاق إلى أن تضمن بحث موضوع القرم؟ ثم لماذا لم يشاركهم رئيس وزراء بريطانيا؟ ولماذا ظهر على أمريكا عدم الموافقة على هذا الاتفاق؟ وما المتوقع بالنسبة لتنفيذه؟، والمعذرة عن إطالة السؤال، وجزاك الله خيراً.

الجواب:

حتى تكون الصورة واضحة للوصول إلى الإجابة الصحيحة نذكر ما يلي:


1- إن السياسة العامة عند أمريكا هي أن تبقى أوكرانيا بؤرة توتر ساخن في خاصرة روسيا تستعملها وسيلة للضغط أو الابتزاز لجعل روسيا خطاً أمامياً لأمريكا في عدد من القضايا الدولية مثل سوريا والاتفاق الإيراني النووي ونحو ذلك. وكانت أوروبا لا تعارض هذه السياسة العامة لأنها كانت تراها لا تصل إلى حرب أو ما يشبه الحرب في أوروبا مع روسيا... واستمرت أحداث أوكرانيا على هذا النحو: مناوشات بين الانفصاليين والجيش الأوكراني، وصمت عن القرم... والأمور تسير بين ارتفاع وانخفاض مداه قليل لا تراه أوروبا يؤثر في تسخين الأجواء إلى حد الاشتعال أو قريباً منه..


2- لكن أموراً طرأت في الآونة الأخيرة، وهي أن أمريكا لم يعجبها هذا الهدوء المستمر بمناوشات محسوبة في أوكرانيا، وبخاصة أن القضايا الدولية أصبحت تتصاعد، والضغط والابتزاز مع روسيا لا يُنتج إذا (بردت) خاصرة روسيا، فعمدت أمريكا إلى تسخين الموقف في أوكرانيا... فبدأت بالتصريح بأنها ستدعم أوكرانيا بالأسلحة المتطورة، وأن أوكرانيا ممكن أن تدخل في الناتو... هذا بالإضافة إلى قيامها ببعض التدريبات المسلحة قريباً من مجال روسيا الحيوي، هذا الأمر أوجد استفزازاً لروسيا فبدأت تتصاعد حركاتها العسكرية قرب أوكرانيا، بل والتدخل مع الانفصاليين حتى وإن لم تعلن ذلك، بالإضافة لتصريحاتها شبه الساخنة...


فقد نشرت بعض وسائل الإعلام أن كيري وزير خارجية أمريكا قد زار كييف في الوقت الذي كان يلتقي فيه بوتين مع ميركل وأولاند لبحث موضوع الاتفاق السياسي، وكان كيري يبحث في كييف خلال زيارته تزويد واشنطن قوات كييف بأسلحة فتاكة - وهو يعلم أن المجتمعين في منسك يعارضون ذلك. وأيضاً فقد ذكرت "الحياة" على موقعها "الجمعة" 6 شباط/فبراير 2015 "... وكانت واشنطن أعلنت أنها ستقدم إلى كييف مساعدات عاجلة قيمتها 118 مليون دولار، خصصت لتدريب القوات الأوكرانية، وتقديم تجهيزات بينها بزّات وقاية وسيارات عسكرية وأجهزة للرؤية الليلية..." ورد الناطق باسم الخارجية الروسية الكسندر لوكاشيفيتش بأن «تزويد كييف أسلحة أمريكية متطورة لا يهدد بتصعيد النزاع فقط، بل كذلك أمن روسيا التي تعرضت أراضيها لقصف الجيش الأوكراني مرات». وحذّر من أن «اتخاذ قرار من هذا النوع سيُلحق أضراراً فادحة بالعلاقات الروسية - الأمريكية» ...إلخ


هذا بالإضافة إلى تصريحات المسئولين الأمريكيين عن موضوع القرم وأن ما فعلته روسيا بضمه هو عدوان...، ففي تصريح له وجّه الرئيس الأمريكي باراك أوباما يوم الاثنين، 9 شباط/فبراير 2015، تحذيراً إلى روسيا بشأن النزاع في أوكرانيا، معتبراً أنه لا يحق لموسكو "إعادة رسم حدود أوروبا بقوة السلاح". وهو إشارة واضحة إلى موضوع شبه جزيرة القرم التي تم إسقاطها في الاتفاق المبرم في منسك، وبطبيعة الحال فإن هذا التصريح يثير ناراً حامية تجاه روسيا لأنها اعتبرت القرم جزءاً منها، ما يجعل دلالة هذا التصريح توازي -إن لم تزد عن- تصريحات أمريكا في تسليح الجيش الأوكراني ...إلخ


3- لقد أخذت أوروبا وبخاصة ألمانيا وفرنسا تصريحات أمريكا مأخذ الجد، ولذلك فقد سارع البلدان للتصريح بأنهما ضد تزويد أوكرانيا بالسلاح لأن هذا قد يقود إلى حرب في أوروبا...


ففي كلمتها أمام مؤتمر الأمن الدولي الذي انعقد في ميونخ من 6/2/2015 إلى 9/2/2015، رفضت ميركل فكرة أن إرسال أسلحة أمريكية إلى كييف سيساهم في حل الصراع، وقالت: «لن يُقنع جيش أوكراني أفضل تجهيزاً الرئيس بوتين بأنه سيخسر عسكرياً، في حين تريد أوروبا تعزيز أمنها بالتعاون مع روسيا، وليس ضدها»، كما حذرت وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا خلال كلمتها في افتتاح مؤتمر الأمن الدولي السنوي في ميونيخ، حذرت من أن إرسال الغرب أسلحة إلى الجيش الأوكراني «قد يؤجج النزاع في أوكرانيا، لأنه يصب الزيت على النار، ويبعدنا عن الحل المطلوب».


وهكذا فعلت فرنسا، فقد ذكرت القدس العربي في 07/02/2015م: (أعرب الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند عن اعتقاده أن المبادرة هي واحدة من الفرص الأخيرة". وتابع أولاند حديثه قائلا إنه بدون حل توافقي أو اتفاقية دائمة لإحلال السلام، فإن السيناريو معروف "وله اسم هو الحرب". وأضاف أولاند أنه كان واضحا بالنسبة له أن الرحلة مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى كييف وموسكو كانت صعبة ومغامرة "لكن كان لا بد منها". وأوضح أولاند أنه وميركل يريان أن "شبح حرب يدق أبواب أوروبا".) كما اعتبر وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس - الذي تقوم بلاده بجهود في الوساطة - أن "لا أحد يريد الوقوع في فخ حرب شاملة، ولا مصلحة لأحد فيها وأنه حان الوقت للقيام بخيارات"، مؤكدا أن ما تريد ألمانيا وفرنسا التوصل إليه في أوكرانيا، "ليس السلام على الورق، بل السلام الفعلي".)


4- خشيت أوروبا (فرنسا وألمانيا) أن يؤدي هذا التطور الساخن في مواقف أمريكا إلى تصاعد الأعمال العسكرية الروسية تجاه أوكرانيا، ومن ثم تُحرج أوروبا إن لم تقف في جانب أوكرانيا ما ينتج عنه حرب أو شبه حرب في أوروبا في الوقت الذي لا تؤثر هذه الحرب في أمريكا، فكان ذلك سبباً ملحاً في أن تغير أوروبا من سياستها الموافِقة لأمريكا في أوكرانيا، فتقرر الاتصال بالرئيس الروسي لإيجاد حل سياسي، وقطع الطريق أمام أي تصعيد ساخن بين أوروبا وروسيا، وهذا ما كان، فقد بحث زعماء أوروبا "فرنسا وألمانيا" هذا الأمر واتفقوا عليه في 6/2/2015 ثم ذهبت ميركل إلى واشنطن في 8/2/2015 لتعلم أوباما بهذا الأمر لا لتستأذنه... وكان واضحاً أن أوروبا لأول مرة تُحكم أمراً قبل أن تأخذ الضوء الأخضر من أمريكا، فقد تم التوافق على ورقة العمل وإقرارها من قبل الزعماء الثلاثة فلاديمير بوتين وأنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرنسوا أولاند الجمعة 06/02/2015م، ولم يبق سوى دعوة الفرقاء الأوكرانيين "الرئيس والمتمردين" للتوقيع عليها، ثم ذهبت ميركل إلى واشنطن لإعلام أوباما!


5- لقد أثر هذا الموقف من فرنسا وألمانيا، أثّر كثيراً في أوباما وإدارته، وقد تسبب هذا في حدوث مشادات كلامية في مؤتمر قمة ميونخ بين كيري وميركل وبخاصة حول تصريحات أمريكا بتزويد أوكرانيا بالسلاح في الوقت الذي ترفض أوروبا ذلك، فقد ذكرت الحياة على موقعها الأحد، 8 شباط/فبراير 2015 (شهد مؤتمر الأمن الدولي في ميونيخ «تراشقاً» كلامياً حاداً بين الألمان والأمريكيين حول نية واشنطن تسليح قوات كييف لتقاتل الانفصاليين الموالين لموسكو في شرق أوكرانيا. وعَكَسَ ذلك غياب توافق في الرأي عبر الأطلسي حول كيفية مواجهة بوتين في هذا الصراع). وفي كلمة تالية بمؤتمر ميونيخ، أشاد السناتور الأمريكي لينزي غراهام باهتمام ميركل بأزمة أوكرانيا، لكنه استدرك أن «الوقت حان كي تستيقظ المستشارة على حقيقة اعتداءات موسكو». وتابع: «يستطيع أصدقاؤنا الأوروبيون الذهاب إلى موسكو حتى ينتابهم الإحباط لأن الأمر لن ينجح، يجب مواجهة ما أصبح أكذوبة وخطراً»).


6- ولكن مع كل هذا وذاك فإن أوروبا لا زالت صديقة لأمريكا إلى حد ذي بال، ولكن هذه الصديقة تراءى لها أن النار تقترب منها فأسرعت إليها تطفئها دون استئذان الصديق وهي تظن أنها ستُعذر! ويبدو أنه تم التظاهر بذلك، فقد أكد أوباما وميركل في مؤتمر صحفي أعقب لقاءهما مدة ساعتين، الاثنين، 9 شباط/فبراير 2015، أن «عدوان روسيا في أوكرانيا قوّى وحدتنا، ولن نقف على الحياد». وقال أوباما: «في حال فشل الدبلوماسية هذا الأسبوع وجهت فريقي إلى وضع خيارات أخرى بينها التسليح». وزاد: «لا حل عسكرياً لكن الهدف هو تغيير حسابات روسيا، علماً أنني لم أتخذ القرار بعد». وتمسكت ميركل بإعطاء الدبلوماسية "محاولة أخيرة" قبل درس خيارات أخرى، واعتبرت أن "الحلف الأمريكي - الأوروبي سيبقى قوياً، وسيستمر مهما كان قرارنا لاحقاً". وكما هو ظاهر فإن الحبل بينهما لم ينقطع ولكنه غير ممدود بقوة، بل في تصريحات بعض المسئولين الأمريكيين شيء من التهكم! كما في تصريح السيناتور الأمريكي سالف الذكر.


7- نستخلص من كل ما سبق أن السبب في التحول المفاجئ في سياسة أوروبا تجاه روسيا بالنسبة لقضية أوكرانيا هو الاعتبارات المذكورة أعلاه مع أن أوروبا ضخّمت الخطر... وهكذا أقبلت على الاتفاق مهرولة مع أن شروطه كانت في صالح روسيا حتى إنه لم يتطرق إلى موضوع القرم، وكان هذا واضحا في جواب ميركل على سؤال وجه إليها عن هذا الموضوع، فأجابت بما يفيد أن موضوع القرم لا يهمها، بل المهم الوصول إلى اتفاق! وقد كان جوابها بنصه: (لن أشغل نفسي بقضايا تتعلق بأراضٍ. مهمة كل دولة أن تدير هذه المفاوضات بنفسها، ولا أسافر مع الرئيس الفرنسي إلى موسكو كوسطاء محايدين. المسألة تتعلق بمصالح فرنسا وألمانيا وقبل كل شيء مصلحة الاتحاد الأوروبي). ومن الجدير ذكره أنه سواء أذكرت أمريكا القرم أم لم تذكرها، وسواء أذكرت ألمانيا وفرنسا القرم أم لم تذكرها، فكل منهم لا تهمه القرم إلا بمقدار ما يحقق لهم من مصلحة استعمارية بمفهومهما الرأسمالي...


8- أما لماذا لم يشارك رئيس بريطانيا مع فرنسا وألمانيا، فذلك لأن موقف بريطانيا هو كالمعتاد: قدم هنا والقدم الأخرى هناك! ففي حين وصف وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند الرئيس الروسي بأنه "يتصرف كطاغية" فيما يتعلق بأوكرانيا، مشيرا إلى أن قوات كييف لا يمكنها هزيمة الجيش الروسي في ساحة المعركة مما يجعل الحل السياسي الخيار الوحيد لحقن الدماء. كما وأكد هاموند "أن بلاده لا تخطط لتسليح قوات كييف..." وهو هنا يرضي أوروبا...


إلا أنه في تصريح آخر قال بأن بريطانيا ستراجع قرارها السابق الذي أعلنت فيه أنها لا تخطط لتسليح الجيش الأوكراني لمساعدته في قتال الانفصاليين، وهو ما تريده الولايات المتحدة. فقد ذكرت الحياة، الأربعاء، 11 شباط/فبراير 2015 أن وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند قال للبرلمان: «لا يمكن أن نسمح بانهيار القوات الأوكرانية»، مضيفاً: «تقديم أسلحة فتاكة لأوكرانيا قرار وطني لكل دولة على حدة في الحلف الأطلسي (ناتو)، ونحن لا نعتزم فعل ذلك، لكننا نحتفظ بحق مراجعة موقفنا» وهكذا فقد جعل الباب (موارباً)، فهو لا يعتزم ولكنه قد يغير فيعتزم! وهو هنا يرضي أمريكا فلا يصطدم معها، وهذا هو موقف بريطانيا المعروف عنها في الفترات الأخيرة. وبناء عليه فلم يشترك رئيس وزراء بريطانيا مع ميركل وأولاند.


9- أما المتوقع، فإن أمريكا على الأرجح ستوجد مشاكل عدة تحول دون تنفيذه، فإن لها أتباعاً في أوكرانيا، ومع أن رئيس الجمهورية بوريشنكو قريب من أوروبا إلا أن نصيباً لها فيه... وعليه فيمكنها توتير الأوضاع بأحد ثلاثة أمور أو بكلها:


- تزويد أوكرانيا بالسلاح المتطور.


- أو مباحثات معها لإدخالها في الناتو.


- أو تحريك بعض رجالها في أوكرانيا.


ومن ثم تُفشل الاتفاق، لأن كل واحدة من هذه الثلاثة تستفز روسيا وتؤثر في الأحداث، وتؤدي لإفشالها...


وقد تسعى روسيا للدخول في محادثات مع أمريكا حول هذه المسألة، فهي تدرك ثقل أمريكا في الموضوع، ولذلك وردت أنباء سابقة أن روسيا كانت تفضل المحادثات مع أمريكا بدل المحادثات مع أوروبا لكن المسارعة للاتصال بروسيا كانت من أوروبا وليس من روسيا.


10- هذا هو المتوقع... وبالنسبة لنا فلا يهمنا في الموضوع إلا القرم، فهي بلد إسلامي عشنا معها وعاشت معنا قروناً طويلة، ولولا أنها في عمق الأحداث لما كان للنزاع بين أمريكا وروسيا شأن عندنا كبير... فالقرم كانت تتبع الخلافة قروناً إلى أن غزتها روسيا وتآمرت معها دول الغرب فضمتها إليها في أواخر القرن الثامن عشر مع أن القرم كانت إمارة إسلامية منذ 1430م، ثم أصبحت ولاية من ولايات دولة الخلافة العثمانية سنة 1521م في عهد الخلافة الزاهر إلى أن تآمر عليها الروس ودول الكفر وتمكنوا من فصلها عن الدولة العثمانية سنة 1783م، فارتكبوا فيها من الجرائم والمجازر ما تنأى عنه الوحوش، ثم ضموها إلى روسيا التي غيَّرت اسم عاصمتها من "أق مسجد" أي المسجد الأبيض إلى الاسم الحالي "سيمفروبل"، وللعلم فإن القرم تعني القلعة أو الحصن بلغة أهلها التتار المسلمين. وهكذا فإن القرم كانت إسلامية قبل احتلالها من الروس بنحو ثلاثة قرون ونصف! ومن ثمَّ فإن استقرارها الدائم هو بأن تعود إلى أصلها ولاية إسلامية في دولة الخلافة القادمة إن شاء الله.


ونحن لا ننسى القرم ولا أي بلد إسلامي يحتله الكفار المستعمرون، طال الزمان أم قصر ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾، ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾.

     
02 من جمادى الأولى 1436
الموافق 2015/02/21م